القائمة

أخبار

"الحبوس" أعرق أحياء الدار البيضاء يحتفي بمرور قرن على تشييده

يحتفل حي الأحباس، أو "الحبوس" كما ينطقها سكان الدار البيضاء، هذه السنة بمرور قرن كامل على تشييده، حيث بني على الطراز المغربي التقليدي بجوار "القصر الملكي" ليكون في البداية حي "الطبقة البورجوازية". غير أن التحولات التي عرفتها الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمغرب، أدت إلى أن يصبح الحي أحد "الأحياء الشعبية" العريقة في المدينة. تجمع بنايات الحي بين المعمار التقليدي المغربي وبعض مظاهر الرفاهية العصرية. وأصبح الحي حاليا نقطة جذب سياحية ويعتبر وجهة مفضلة لزوّار الدار البيضاء، خاصة أن أشهر متاجر الصناعات التقليدية في المدينة توجد في هذا الحي العريق، إضافة إلى أنه يضم أكبر المكتبات وأشهرها، حتى غدا هناك قول سائر هو "إذا لم تجد كتابا في (الحبوس).. لا تبحث عنه في مكان آخر". بهذه الصفات يجمع حي "الحبوس" بين الثقافة والمعمار.

نشر
DR
مدة القراءة: 5'

أزقته تتميّز بالأقواس والقناطر، ومعها تشاهد ساحات خضراء صغيرة هي من الروعة بمكان. الجانب المعماري مستَلهم من روح الهندسة العربية الإسلامية، مضافة إليها لمسات من الهندسة الغربية والأوروبية من بقايا الحقبة الاستعمارية. واليوم يتردد السياح على هذا الحي باستمرار، بحثا عن مصنوعات تقليدية من ملابس وحلي وحقائب جلدية وأوانٍ نحاسية ومصنوعات خشبية، وسجاد يدوي يعبر عن الأصالة المغربية.

وحقا، تعرض المصنوعات التقليدية بكثرة على الواجهات والأرصفة، حيث توجد «البازارات» التي تضمّ حوانيت الصناعات اليدوية المختلفة، ابتداء بالملابس التقليدية التي حاكتها أيادي الصنّاع التقليديين كالجلباب والقفطان الذي تبدع فيه أيادي الصناع أشكالا وتطريزا، وفي مكان ملاصق متجر لبيع الأواني والديكورات النحاسية والفضية، مثل الأباريق (جمع إبريق)، الذي يعرف عند المغاربة باسم «البراد»، وعلى مسافة قريبة يجد الزائر أمامه السجاد المعقود والمنسوج بالشكل التقليدي، والديكور المصنوع من خشب العرعار.

وثمة محلات تجارية أخرى لافتة مثل «القاعة»، وهي عبارة عن مجموعة من الدكاكين متخصّصة في بيع الزيتون وزيت الزيتون و«المخللات» و«الخليع»، وهو عبارة عن لحم مجفف في الشمس ومنقوع في الشحم، أشبه ما يكون باللحم القديد، وعادة ما يُستهلك في الإفطار بكثرة في الأيام الباردة حين يضاف إلى البيض المقلي.

ومن أهم الأمكنة الأخرى التي تجذب زوار حي الحبوس المحلات المتخصصة في ببيع الحلويات المغربية بجميع أنواعها، وكذلك الفطائر. كذلك، على الرغم من انتشار «كتب الإنترنت»، فإن مكتبات حي الحبوس لا تزال قبلة للباحثين والكتاب والمثقفين والطلاب، ويضم بعض هذه المكتبات كنوزا فكرية ومعرفية وأدبية حقيقية، وتوجد جميعا متراصة ومتجاورة تعرض كل ما جادت به المطابع، سواء من داخل المغرب أو من خارجه، من تراث فكري وإنساني في مختلف التخصصات.

عبد الرحمن صلاح الدين، وهو مشرف على إحدى مكتبات حي «الحبوس»، قال لـ«الشرق الأوسط» عندما التقته: «غالبية السياح الأجانب يزورون هذه المكتبات بحثا عن الكتب الدينية الإسلامية العربية والمترجمة، بالإضافة إلى كتيبات تعليم اللغة العربية». وأردف أنه خلال السنوات الأخيرة ازدادت ظاهرة الإقبال عند السياح العرب على مكتبات الحبوس، بحثا عن كتب التراث والأدب والشعر والرواية.

وبالمناسبة، لا بد من الإشارة إلى أن في حي الحبوس زقاقا خاصا متخصصا توجد فيه «مكاتب العدول» الذين يتولّون دور المأذون في تحرير عقود الزواج، وكذلك تحرير العقود التي تعتبر قانونية أمام المحاكم، وفي هذا الزقاق يقوم صرح تاريخي له طابع معماري مغربي مميز تحتله المحكمة، وهو من أعرق بنايات المحاكم في المغرب على الإطلاق، وبجوار المحكمة يقع المسجد المحمدي الذي يجمع بين التراث والأصالة. ثم، من الأمور اللافتة في «الحبوس» ساحة الدلّالة (بتشديد اللام)، التي يقصدها كثيرون من مختلف أحياء الدار البيضاء، كونها المكان المشهور بالمزادات العلنية التي يباع فيها كل شيء.

تقع ساحة الدلالة وسط المحلات التجارية التي شيدت خلال فترة الحماية الفرنسية على المغرب. ويجتمع الناس هنا على شكل دائري بعد منتصف النهار، وهو الوقت الذي يغلق أصحاب المحلات دكاكينهم لتناول الغداء. ويجري عرض البضاعة من خلال الدلال أو الدلالة، وهي في الغالب أثاث منزلي مستعمل أو ملابس فيها عيوب تصنيعية. وعادة ما يتميز الدلالون، من النساء أو الرجال، بخفة الدم وقدرتهم على جذب الزبائن وتحفيزهم للشراء. ثم تبدأ بعد ذلك المزايدات على البضائع إلى أن يستقر سعرها على ثمن محدد. وعندها يعرض السعر الذي رسا عليه المزاد على صاحب البضاعة، فإذا وافق، تكتمل عملية البيع. وتبلغ أتعاب الدلالين خمسة في المائة من قيمة السلعة التي تباع.

أيضا من أشهر وأعرق ما في «الحبوس» المقاهي، التي مرت على عدد منها أحداث وشخصيات طبعت تاريخ الحي، بل والمغرب عموما، ببصمات تتناقلها الأجيال. والملاحظ أن مقاهي الحبوس، حافظت على هندستها الداخلية والخارجية، وبقيت وفية للزمان والمكان لا يتغير فيها شيء سوى الوجوه. وحولها يقول سعيد الناجي، أحد سكان الحي: «إن مقهى (المقاومة)، الذي كان يُعرف باسم مقهى (علال)، كان أكبر مقهى في الحي. وفيه كان يجتمع المقاومون سرا لإعداد خططهم ضد عسكر المستعمر الفرنسي. وكانوا في معظم الوقت يتبادلون الإشارات خشية العيون المبثوثة التي تراقبهم».

ومن هذا التاريخ، وهذه الأجواء، لا تزال تقتات مقاهي الحي من تاريخها. فهناك حكايات في كل مقهى تنتقل بالتواتر بين رواده، جيلا بعد جيل. وهكذا أصبح أيضا حي الأحباس ذاكرة الدار البيضاء، ذاكرة ظلت متقدة على مدى قرن كامل.

كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال