القائمة

أخبار

بين حقول الألغام والدبابات وتهديدات الحسن الثاني.. كيف استعد الجيش الإسباني للتعامل مع المسيرة الخضراء؟

مع اقتراب موعد المسيرة الخضراء سنة 1975، كانت الصحراء على وشك التحول إلى ساحة حرب محتملة. فبينما كان عشرات الآلاف من المغاربة يستعدون لعبور الحدود في مسيرة سلمية، كانت القيادة العسكرية الإسبانية تضع خطة دفاعية صارمة أطلقت عليها اسم "عملية مارابونتا" للدفاع  "حتى النهاية عن مدينة العيون.

نشر مدة القراءة: 7'
سيارة عسكرية إسبانية في الصحراء

مع اقتراب موعد المسيرة الخضراء سنة 1975، كان الجيش الإسباني في الصحراء يستعد لمواجهة أي تصعيد عسكري محتمل من المغرب. ويؤكد كتاب "الصراع في الصحراء الغربية" الصادر عن وزارة الدفاع الاسبانية للكاتبين إغناسيو فوينتي سوبو وفرناندو مارينيو مينينديث، أن رئاسة الأركان العامة الإسبانية كانت قد أعدت خطة طوارئ عرفت باسم "عملية مارابونتا"، تهدف إلى منع أي محاولة لوصول المغرب لعاصمة الصحراء، العيون، والتي كانت تمثل مركز الثقل العسكري الإسباني في الإقليم.

ويشير الكتاب إلى أن السلطات العسكرية لم تكن على علم بالمفاوضات الجارية بين الحكومتين الإسبانية والمغربية بشأن التنازل عن الصحراء، لذلك "شرعت منذ 4 أكتوبر في تطهير شريط طوله 10 كيلومترات في شمال الإقليم. ومن هناك قامت بتمديد سياجين مزدوجين في الاتجاه شرقا-غربا حتى وصل إلى الطريق المؤدي من الحدود الشمالية نحو الحقونية".

ألغام ومدافع ودبابات

وبين السياجين زرع الجيش الاسباني حقل ألغام مضادة للأفراد، ويوضح الكتاب أنه "بهذه الطريقة كانوا ينوون إجبار المشاركين في المسيرة والقوات العسكرية المتقدمة نحو الجنوب على السير في اتجاهين محددين: طريق الساحل بين طرفاية والعيون، والطريق الشرقي من الحدود إلى الحقونية، ومن هناك أيضا إلى العيون".

العلومات الواردة في الكتاب أكدها أيضا الجنرال الإسباني المتقاعد أدولفو كولومّا الذي قال في تصريح إعلامي "كان هناك حقل ألغام آخر خلفنا، لكنه كان مزيفًا. أما حقل الألغام الحقيقي فكان على بعد نحو سبعة كيلومترات، محاط بسياج ومعلَّم جيدًا بلافتات بالعربية والإسبانية: خطر الألغام".

وتمركزت المنطقة الرئيسية للدفاع في العيون نفسها، حيث كانت القوات الإسبانية تستعد لتنفيذ ما كانت تسميه العقيدة العسكرية في ذلك الوقت "الدفاع حتى النهاية"، دون أي فكرة عن التراجع. داخل المدينة ومحيطها، تم نشر ثلاث مجموعات تكتيكية قوية، لإغلاق التقدم من الشمال والشرق على التوالي، والأخرى في الخلف كآخر حصن للدفاع.

كانت مجموعة العيون تملك مجموعة مدفعية ذاتية الحركة قوية متمركزة، بحيث يمكن لها، في حالة الضرورة، إحداث ستار ناري يوقف الهجوم. وكان هناك لواء دبابات متوسطة مدرج في هذه التشكيلة يهدف إلى تنفيذ هجمات مرتدة عميقة إذا ما استطاع الغزاة اختراق خطوط الدفاع الأولى، أو لاستغلال النجاح إذا توقفوا أمامها.

وكان من المقرر إسقاط لوائين من المظليين من شبه الجزيرة الايبيرية لضمان دفاع المدينة حتى آخر مدى. وكان ينتشر في الصحراء 20 ألف جندي إسباني، أكثر من نصفهم في العيون.

وكانت القوات الاسبانية مدعومة بالبحرية الإسبانية التي كانت تتحرك على السواحل، ومع خطوط تموين لوجستي مؤمّنة بشكل ملائم مع جزر الكناري، ويؤكد لكتاب "كان الموقع الدفاعي القائم في العيون يبدو غير قابل للاختراق".

وفي 28 أكتوبر تخلى الجيش الاسباني عن "آخر الجنود الصحراويين المحليين الذين كانوا يخدمون في صفوف الجيش الإسباني، لأن القيادة العسكرية لم تكن تثق بولائهم وكانت تخشى أن ينقلبوا في مثل تلك الظروف المتوترة على قياداتهم الإسبانية، كما حدث في مناسبات عديدة في الماضي".

ويشير الكتاب إلى أن القوات العسكرية المغربية لم تكن على أتم الجاهزية لمواجهة القوات الاسبانية، إذ أن القواعد الجوية كانت بعيدة، وكان هناك خطر أن يحاول الإسبان كذلك إجراء إنزال في خطوط خلفية للقوات المغربية مستغلين سيطرتهم على البحر، ما كان سيجبر الجيش المغربي على القتال في جبهتين. كما أن المغرب كان يركز جهوده على إطعام الكم الهائل من المدنيين المكونين للمسيرة.

مفاوضات شاقة

إذا كان الجيش الإسباني في الصحراء على المستوى العملياتي يستعد للحرب، فإن الأمور على المستوى السياسي كانت تسير بطريقة مختلفة تماما، ففي 18 أكتوبر، أي قبل ثلاثة أيام من انطلاق قوافل المسيرة الخضراء، سافر الوزير خوسيه سوليس، إلى مراكش حيث التقى بالملك الحسن الثاني، وأبلغه أن إسبانيا مستعدة للتخلي عن الصحراء.

وفي نفس اليوم أرسل الجنرال رئيس هيئة الأركان العليا، المستشار العسكري الرئيسي للحكومة ورئيس مجلس رؤساء الأركان، إلى الجنرال رئيس هيئة الأركان المركزية للجيش برقية تتضمن أمر رئاسة الحكومة بتفعيل ما يُسمى "عملية السنونو". كانت هذه العملية تهدف إلى الإخلاء الكامل لإقليم الصحراء، والذي كان مقررا أن تبدأ بعد 23 يومًا، وتشمل 10,000 مدني أوروبي كانوا يقيمون بالاقليم.كما تم التأكيد على أن هذا الإخلاء سيكون مشروطًا بضمان القوات العسكرية الإسبانية والقوات التابعة للسلطات المغربية للأمن، وباستخدام الوسائل الكافية للتصدي لأي تهديد من قبل جبهة البوليساريو أو الجزائر.

ومع ذلك، كان الملك المغربي على وعي تام بالضعف السياسي الداخلي الذي كانت تعانيه الحكومة الإسبانية، خاصة في الوقت الذي كان فيه رئيس الدولة، الجنرال فرانكو، يلفظ أنفاسه الأخيرة في مدريد، مما أتاح فترة من عدم اليقين الكبير في مجرى الأحداث السياسية في إسبانيا، وهو ما كان بإمكان المغرب استغلاله لصالح تعزيز مطالبه الإقليمية.

وكان آخر ما يمكن أن ترغب فيه الحكومة الإسبانية في هذه الظروف هو خوض حرب استعمارية في أفريقيا. ومن ثم، جاء الإنذار النهائي الذي وجهته الحكومة المغربية بعد عدة أيام، في 6 نونبر، على لسان وزير الإعلام أحمد الطيبي بنهيمة، الذي دعا فيه السلطات الإسبانية إلى استئناف المحادثات فورًا بشأن نقل السيادة على الصحراء.

تحت تهديد مواصلة المسيرة فوق الأسلاك الشائكة وحقول الألغام، وُضعت السلطات الإسبانية في موقف شديد التعقيد. فقد كان الاتفاق بين مدريد والرباط ينص على أن تتوغل المسيرة 10 كيلومترات في الصحراء، وتقيم هناك 48 ساعة، ثم تنسحب. لكن الآن بدا أن الحكومة المغربية ترفض هذا الاتفاق الضمني، معتبرة أن الظروف الراهنة لم تعد تمنحها أي قيمة مفيدة.

تهديد الحسن الثاني

وبحسب ما ورد في الكتاب فقد كان الملك الحسن الثاني مدركًا أنه لا يستطيع إنهاء المسيرة دون ضمان تحقيق هدفه بالكامل. وإذا فشل في ذلك، فإن الجماهير المتحمسة للشعارات الوطنية قد تنقلب ضده. كما كان يعلم أنه لا يمكن إبقاؤها متوقفة على الحدود لفترة طويلة، خوفًا من ظهور النزاعات الداخلية أو تفشي الأمراض.

وبالتالي، كان الحل الذي اختاره، والذي كان شديد المخاطرة، هو توجيه "رهان كلي" كامل للسلطات الإسبانية، مع علمه أنه في حال فشله، فإن الزخم المستمر للأحداث سيدفع بلا شك إلى حرب في ظروف غير مواتية.

في اليوم الموالي، 7 نونبر، تجاوز 100,000 متظاهر خط الحدود وفتحوا جبهة ثانية شرق الحدود الشمالية، في المنطقة التي كانت إسبانيا قد تركتها دون حماية.

وفي 8 نونبر، انتقل وزير رئاسة الحكومة أنطونيو كارو برفقة السفير الإسباني في الرباط أدولفو مارتين غوميرو إلى أكادير. في تلك الليلة، تناولوا العشاء في فندق مع عدة وزراء مغاربة، في جو توتر شديد، حتى أن الوزير الإسباني سألهم عما إذا كانوا ينوون الحرب مع إسبانيا.

وفي اليوم التالي، اجتمع الوزير الإسباني مع العاهل المغربي، الذي تبنى موقفا تهديديا تجاه الممثلين الإسبان. وعند انتهاء اللقاء، تنازل الوزير كارو متعهدا بتسليم الملك الحسن الثاني رسالة في تلك الليلة نفسها، تضمن فيها حكومة مدريد تسليم الصحراء مقابل أن يوقف الملك المسيرة الخضراء.

وبموافقة حكومة إسبانيا برئاسة أرياس نافارو، سلم الوزير بعد ساعات الرسالة، التي أشار فيها إلى ضرورة مراعاة المصالح المتبادلة والحفاظ على السلام الدولي، وأن الحكومة الإسبانية ملتزمة باستئناف المفاوضات لتسليم الصحراء، إذا كان ذلك يعني نهاية المسيرة الخضراء.

اتفاقيات مدريد

وبهذا تمكن المغرب من تحقيق أهدافه، وفي صباح اليوم التالي، بدأت المسيرة الخضراء في تفكيك معسكرها، وشرعت في التحرك شمالا على متن الشاحنات.

في 12 نونبر، توجه وفد مغربي برئاسة رئيس الحكومة أحمد عصمان ووفد موريتاني برئاسة وزير خارجيته حمدي ولد مكناس إلى مدريد للتفاوض مع السلطات الإسبانية حول نقل السيادة على الإقليم. وبعد يومين، كان مصير الصحراء قد تم الحسم فيه، في ما عرف بـ "اتفاقيات مدريد"، حيث التزمت الحكومة الإسبانية بالتخلي الكامل عن الصحراء بحلول 28 فبراير من العام الموالي. واحتفظ المغرب بالشطر الشمالي من الإقليم، حيث أسس ثلاث جهات: العيون، السمارة، وبوجدور، وعين في كل منها واليا ضمن تنظيم إداري مشابه لبقية المملكة. بينما احتفظت موريتانيا بالجزء الجنوبي الذي أسمته تيرس الغربیة، وأقامت فيه إدارة شملت ثلاثة أقاليم: الداخلة، أوسرد، والكويرة التي تم ضمها لإقليم نواذيبو.

وفي 28 فبراير 1976، الساعة 11 صباحًا، نزع آخر علم إسباني من على سطح مؤسسة حكومية بالصحراء، ورفع العلم المغربي مكانه. وفي تلك الليلة، غادرت آخر القوات والموظفين الإسبان جوا لينتهي  بذلك استعمار إسباني دام أكثر من 90 عاما.

وفي 30 أكتوبر، عبرت أول كتائب القوات المسلحة الملكية المغربية الحدود واحتلت المواقع المهجورة، حتى وصلت إلى منطقة المحبس التي كان الجيش الجزائري قد احتلها لكنه انسحب في اليوم نفسه لتجنب مواجهة مباشرة مع القوات المغربية.

كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال