القائمة

الرأي

مـصْـرُ التي فـي خـاطـري

 

أول أمس دخلت الثورة المصرية المجيدة سنتها الثالتة. فعلت ذلك كما لو كانت تدخل نفقاً بلا نهاية. لا مجال هنا للإحتفاء ولا للشِعْر وشموع الذكريات.

أول أمس دخلت الثورة المصرية المجيدة سنتها الثالتة. فعلت ذلك كما لو كانت تدخل نفقاً بلا نهاية. لا مجال هنا للإحتفاء ولا للشِعْر وشموع الذكريات.

 

نشر
DR
مدة القراءة: 3'

لاوقت لذلك. مصر تحْصي ضحاياها مع فارقٍ جوهريٍ: هم في هذه المرة مُجرد قتلى  بلا مجْدٍ، فالبلاد - مع الأسف- اختلفت على هويتهم . 

والوطن انقسم في أمر تسميتهم: مُجرمون أم ضحايا؟ إرهابيون أم انقلابيون؟ مُخربون أم مواطنون؟ شهداء أم بلطجية؟ مناضلون أم فلول؟.

دُفنوا على عجلٍ بلا مواكب ولا تأبين، بلا وداع ولا سرادق للعزاء: من يُعزي من؟ ومن يَقْتُلُ من؟. 

وخوفاً من جنون المرحلة وإغراء الانتقام، وضعوا في قبور بلا هوية. قبور تُركت لكرم الزهور البرية، ولرحمة عابر سبيل يثُيره القبر المنْسي فيلهج بدُعاء مبني للمجهول.

لا أحد سيحتفظ بِنَظَارَةِ  وُجوهِهم في جداريات الشوارع الكبيرة. وعدا الأم الثكلى أو الطفل المُيتم  لن نتعرف على أسمائهم الصغيرة في القصائد الحماسية التي تنفذ إلى المسام العميقة.

غداً لن يُقسم أحدٌ بدمائهم!

فالدم - عندما تفقد القضية بوصلتها- لا يكفي وحده لينهض النشيد صادحاً ولكي تسري تلك القشعريرة - التي في البال - في الأجساد، ولكي تدُب تلك الكهرباء السحرية  في الأبْدان.

الدم هنا يتخلى عن مجازه القوي واستعاراته البليغة، هنا يترك كل حمولة الإيديولوجيا لينحدر إلى حالة البيولوجيا: ليس سوى سائل أحمر قانٍ بمواصفات التعريف المدرسي القديم.

على قسوته، كم يبدو رخيصاً فاقداً للمعنى. دمٌ مُرٌ . دم يحفر عميقاً في حافة الشرخ المُتنامي داخل البلاد. دمُ الأُخُوة  المنشطرة. الدم الذي لا تُجمع العائلة على وصفه ولا يقدر الوطن على تسميته.

مصر «التي في خاطري»، بدت أول أمس، مُنهكة بين قبيلتينْ تُعيدا اكتشاف الجاهلية بأدوات الحداثة ، وموزعة بين حقيقتين مُخيفتين: حقيقة العسكر الذي يحمل ادعاء حماية مدنية الثورة من خطر الأخونة والتيوقراطية الجديدة، وحقيقة الإسلاميين الذين يحملون ادعاء حماية ديمقراطية الثورة من خطر الإنقلابيين الجُدد.

حقيقة قناة الجزيرة حيث مصر تجاوزت لحظة اللاعودة تجاه الفوضى والإنفلات، وحقيقة القنوات المصرية الخاصة حيث البلاد تستحق الاحتفال بتحالف الجماهير والجيش ضد الإرهاب.

كِلا الحقيقتان صنعت لنفسها هوية خالصة، كلاهما أصبحت لا تُعرف إلا بالتضاد المطلق مع الأخرى. وهنا، فإن حدة القطيعة تجعل سيناريو «جزائر» التسعينات، يُطل على المَشهد بأقرب ما نتصور.

يُمكن للبعض منا، بكل يُسْرٍ أن يرفع شارة «رابعة» ويَلعن الإنقلاب والعسكر والدولة العميقة والعلمانيين. ويُمكن للأخرين أن يبحثوا في تقاسيم «السيسي» عن ظلال خافتة لعبد الناصر وهم يُدينون جرائم الإخوان ويحلمون بقلب العروبة ينبض بعد طول سُباتْ، وقد يفعلون ذلك - بالمناسبة- وهم يُدَنْدِنون بلحنٍ خالدٍ من ريبرتوار الستينيات.

أنا الذي - أعترف أنني- لا أملك ما يكفي من اليقين لأختار باطمئنانٍ خندقاً حربياً، وحقيقة مُطلقة، وعدواً جاهزاً، وكلمات مستعملةً، وقبيلةً بثأرٍ قديم. أُفضل أن أُصلي لمصر وأن أنتظر بعجز الضعفاء مُعجزة من السماء.

رَحْمَتُكَ يارب.

منبر

حسن طارق
أستاذ جامعي، برلماني
حسن طارق
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال