القائمة

الرأي

عن الأرضية التوافقية بين الإسلاميين والعلمانيين

 

يقترح الأستاذ محمد الساسي القيادي اليساري، من أجل انتقال ديمقراطي ناجح بالمغرب "حصول توافق بين معسكري الإسلاميين والعلمانيين على مجموعة من المبادئ والقواعد المُؤَسِّسَةِ، والتي يقع في صدارتها كل من الدولة المدنية والحريات الفردية والملكية البرلمانية".

يقترح الأستاذ محمد الساسي القيادي اليساري، من أجل انتقال ديمقراطي ناجح بالمغرب "حصول توافق بين معسكري الإسلاميين والعلمانيين على مجموعة من المبادئ والقواعد المُؤَسِّسَةِ، والتي يقع في صدارتها كل من الدولة المدنية والحريات الفردية والملكية البرلمانية".

 

نشر
DR
مدة القراءة: 6'

هذا التوافق الذي يدعو إليه القيادي اليساري البارز يحتاج إلى نقاش هادئ وعميق، وهو ما دشنه في بعض مقالاته؛ ونحن نرى أن الخلاف بين الرؤيتين العلمانية والإسلامية لا يمكن أن تظلله المقولة المشهورة بين الإسلاميين : " نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"؛ فهذه القاعدة تصلح لرأب الصدع بين الفرقاء من كيان واحد، ينطلقون من مرجعية واحدة؛ بينما الواقع أن المرجعية اللائكية التي ينطلق منها إخواننا العلمانيون، تختلف جذريا عن المرجعية الإسلامية التي يصدر عنها التيار الإسلامي على اختلاف تلاوينه.

(1)

الإسلاميون والعلمانيون متفقون على رفض "الدولة الدينية" التي تحكم بالحق الإلهي، أو التي يكون فيها القول الفصل في الشأن السياسي لهيئة الفقهاء أو الإمام المرشد، بحيث يكون هؤلاء فوق المساءلة؛ فالدولة الثيوقراطية التي أسسها رجال الدين في أوروبا/القرون الوسطى لم يعرفها الإسلام إلا في زمان النبوة، حيث كان النبي المعصوم من الخطأ مرجعا في فض الخلاف، ومع ذلك كان يلتزم بالشورى؛ لكن بوفاته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي وفتح باب الاجتهاد في تكييف النوازل وفق المرجعية التي تأسست عليها الدولة في المدينة، وعندما نقول الاجتهاد نعني إمكانية الخطأ، وضرورة الشورى والالتزام بنتائجها.

ولهذا نجد هذه المعاني بارزة في أول خطبة لأوّل خليفة للمسلمين أبي بكر الصديق، بعد وفاة رسول الله صلى الهج عليه وسلم :

" أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".

إذن، باستثناء الدولة الشيعية التي تعتقد بعصمة آل البيت وأحقيتهم بالخلافة دون سواهم، وأن المرشد العام ينوب عن الإمام الغائب، وله القول الفصل في كثير من قضايا السياسة والدين، فإن الجماعة السنية لا تقرّ بهذه المسلمات، بل وترفضها، وتطالب بحكم مدني ـ لا مكان فيه للعسكر أو لرجال الدين ـ يختار فيه الناس من يحكمهم بدستور متوافق عليه، لمدة محددة تنتهي بمحاسبة وتجديد الاختيار وفق آليات يطورها العقل البشري، لا دخل فيها للعصمة.

الخلاف بين العلمانيين والإسلاميين مردّه إلى أن العلمانية تقصي الدين من الشأن العام، وتجعله قضية فرد أو ضمير وعلاقة بين العبد وربه، لا دخل لأحد في قضايا العقيدة والإيمان؛ ثم بعد ذلك تتدخل القيادات السياسية العلمانية في الشأن الديني، فتطالب بتغيير نصوص قطعية في القرآن والسنة استجابة للتطور المدني الذي تعرفه المجتمعات الإسلامية، بدعوى أن هذا نقاش حقوقي أو قانوني أو سياسي، وهو تناقض واضح.

والحقيقة التي لا يمكن إغفالها أن السياسة في عصرنا، مع مجيء الدولة الحديثة، اكتسحت كل المجالات، بما فيها الشأن الديني، فاصطدمت بالمجال الواسع الذي ينظمه القرآن : في العبادات والأخلاق والمال والعلاقات الأسرية والعلاقات بين الناس : مؤمنين أو كفارا..إلخ؛ هذا إذا اقتصرنا على القرآن وصحيح السنة، أما الثروة الفقهية فبإمكاننا أن نأخذ منها وندع.

(2)

في الحريات الفردية، نقول على سبيل المثال، إذا كان النص القرآني حاسما في تحريم الزنا وجعله من الكبائر، لكن مع ذلك يمكن إدراجه في الحريات الفردية ما لم يخرج للعلن، فهذه العلاقة الجنسية الآثمة لا حق لأحد أن يتدخل فيها ـ لا الدولة ولا الأفراد ـ إذا استثر المقترفون لها، فأمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم يوم القيامة وإن شاء عفا عنهم، ومن تجسس عليهم وفضحهم بين الناس هو الذي يعاقب في شريعتنا، باستثناء الزوج.

كذلك الإفطار في رمضان أو شرب الخمر أو الشذوذ الجنسي أو الكفر، يدخل في الحريات الفردية ما لم يخرج للعلن، بمعنى تحريم تتبع عورات الناس والتجسس عليهم إذا لم يجاهروا بمعاصيهم، وهذا حفظا لحق الجماعة في تعزيز القيم المشتركة داخل المجتمع الواحد، فالمفروض أن نسنّ قوانين تحفظ للعصاة حرمتهم في الدنيا؛ فلا يكشف سترهم أحد إلا عرّض للعقوبة، وبالمقابل نسنّ قوانين تحفظ للمجتمع حرمته، فلا يظهر لنا أحد معصيته إلا عرّض نفسه أيضا للعقوبة، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وهكذا نفصل بين شؤون الدنيا وشؤون الآخرة.

ولا يوجد مجتمع إلا ويحافظ على قيمه، ولا يسمح بأن تعلو قيمة على أخرى إلى حدّ الاصطدام، فالمجتمع الفرنسي خرج عن بكرة أبيه رافضا للقوانين التي تسمح للمثليين بأن يخترقوا الأسرة ويهدّدوا النسيج المجتمعي، لأن اليسار الفرنسي تعاقد مع هذه الأقلية الشاذة من أجل تحقيق مرادها بتقنين هذه الجريمة الإنسانية وإخراجها للعلن، وإلا فإن القوانين الفرنسية لا تعتبرها جريمة إذا كانت سرّا.

(3)

الخلاصة التي نسعى لاستثمارها في هذا النقاش الصحي، أن تشمل الأرضية التوافقية بين الإسلاميين والعلمانيين بالمغرب :

أولا عدم المسّ بقطعيات الدين؛

ثانيا احترام نتائج الديمقراطية في التداول على السلطة، ورفض أي تزوير للإرادة الشعبية؛

ثالثا احترام الملكية باعتبارها حكما بين الفرقاء السياسيين، وتدبيرا للشأن الديني من خلال مؤسسة إمارة المومنين، وصيانة للمؤسسة العسكرية من الانخراط في الشأن السياسي، وحفظا للوحدة الترابية؛

رابعا احترام التنوع الثقافي والعرقي الذي يعرفه المغرب.

ومن تأمّل هذه الأربع التي ذكرنا، وجد أن معظم الفتن المشتعلة اليوم في الوطن العربي، سببها المباشر عدم إعطائها حقها من الاعتبار، ثمّ بعد ذلك يأتي التدخل الأجنبي عاملا خارجيا مؤججا للصراع.

فإذا انفرط عقد الدين أو الملكية أو التنوع الإثني، دخل المغاربة في الصراع والفتن التي لا تبقي ولا تذر.

أما الديمقراطية فغيابها جزئيا، هو سبب تعثر كل المشاريع التنموية، وهذا التعثر الجزئي إذا لم يتم تداركه في قريب الآجال فإن الشباب سيقول كلمته، لأنه هو المتضرر الأول من الفساد والاستبداد، وطبيعة الشباب الثورية قد تأخذ أشكالا ذات طابع إثني أو ديني أو معاداة للملكية؛ وهذا ما لا نرجوه لمجتمعنا، فعلى عقلاء الإسلاميين والعلمانيين أن يتوافقوا على هذه الأرضية، وينطلقوا منها لبناء مغرب قوي منفتح ومزدهر يسع كل أبنائه وأعراقه.

منبر

د. أحمد الشقيري الديني
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال