القائمة

الرأي

فاطمة الإفريقي تكتب: دعاءٌ..للبيع

 

المتسولة العجوز أمام باب محطة القطار، كانت تردد الدعاء نفسه بطريقة آلية على مسامع كل العابرين، لو أنها فقط، نظرت إلى عيني ذاك الصباح الغائم، كانت ستدرك بأنني كنت محتاجة إلى دعاء مختلف، كثيف ومركَّب، يليق بي وحدي.

المتسولة العجوز أمام باب محطة القطار، كانت تردد الدعاء نفسه بطريقة آلية على مسامع كل العابرين، لو أنها فقط، نظرت إلى عيني ذاك الصباح الغائم، كانت ستدرك بأنني كنت محتاجة إلى دعاء مختلف، كثيف ومركَّب، يليق بي وحدي.

 

نشر
DR
مدة القراءة: 3'

لكنها كانت تحفظ دعاءً واحدا وفضفاضا يناسب كل المقاسات والسحنات والقامات، كان دعاءً قصيرا وغيرَ مكلف، في مستوى هزالة القطع النقدية التي تضعها أياد لا مبالية على إيقاع الخطى المسرعة.

بائع الأدعية الشاب بمدخل السوق الممتاز، عرض عليّ تشكيلة مبتكرة من كنانيش الدعاء المُستجاب بثمن زهيد، كان يبدو واثقا من بضاعته المستوردة من الخليج وهو يشرح لي استعمالاتها المتعددة، وفعاليتها الآنية، وطريقة ترديدها والأوقات المناسبة لذكرها وكأنه صيدلي متخصص في الأدعية المنشطة..لما سألته عن مستواه الدراسي، عرفت بأنه مجازٌ في علوم الحياة، نظرت إليه نظرة تشبه الدعاء، تمنيت له حياة أحلى ومضيت بلا دعاء..

على رصيف الشارع المحاذي للمسجد الكبير، كان بائع البخور والحبة السوداء والدعاء المستجاب، يحاول إقناعي ببركة تمائمه السحرية، وقدرة أدعيته الخارقة على فتح أبواب الرزق وتيسير التجارة، لم يكمل كلامه حين مرت دورية للمراقبة وبعثرت سلع بائعي البخور والساعات المزورة والأشرطة المقرصنة الذين يفترشون الرصيف، ظلت بضاعته مشتتة هناك، إذ كان مضطرا للفرار...

على شاشة تلفزيون «الجزيرة»، كان الشيخ المشهور يتلو دعاءً مؤثرا لنصرة الشعوب المستضعفة في البلدان العربية التي ابتليت بحكام تجبروا وأبادوا وعاثوا فسادا في الأرض، في أسفل الشاشة كان شريط الأخبار يعلن ترشح أكثر من رئيس ومشير ومريض لولاية جديدة، واستمرار قمع المظاهرات المطالبة بالحرية، والمزيد من الاعتقالات في صفوف المعارضين للنظام ..

في مكتبة الحي العصرية، كان الغبار يحجب ملامح كتب الأدب والفلسفة والتاريخ المصفوفة في الرفوف الداخلية في الركن المظلم والقصي، وحدها كتب الأدعية والأذكار كان يُجليها الضوء وهي تزين الواجهة الزجاجية بجوار كتب الطبخ وكتب الرُّقية الشرعية وسلسلة الإصدارات الخاصة بأسرار السعادة الزوجية..

تصفحت العناوين المعروضة لكتب الأدعية، كانت مغرية ومثيرة وتلامس كل القضايا والوضعيات حتى البسيطة والمتاحة والتي لا تحتاج دعاءً أو وساطة أو دعما روحيا.. وجدت أدعية جميلة تُتْلى قبل الطعام وبعد الاستحمام وعند النظر للمرآة وخلال السفر وقبل النوم، وجدت أدعية تُقال عند الدخول إلى الدار أو السوق أو قاعة اجتماع، وأخرى تُذكر عند التعجب أو الفزع أو الغضب أو السرور أو الكرب، وجدت أدعية تُردَّد بعد صياح الديك أو نباح الكلب أو...

في الحقيقة، لم أعد أذكر أغراض كل الأدعية، كانت وفيرة ومتنوعة وخاصة لكل الطوارئ..تصفحت فقراتها وتأملت عباراتها الروحية المرتبة كأبيات شعرية ركيكة، فتشت بين الاستعارات عن دعاء يليق بي، يكون بسيطا كحزني، وبليغا كحلمي، ومختصرا كأملي الوحيد؛ لكن بلا جدوى.

من بين كل الأدعية المعروضة هنا وهناك، بالمجان أو بالمقابل، على الورق أو على الشاشات، فوق الرصيف أو على الرفوف، البسيطة أو المزخرفة، القصيرة أو المطنبة في التفاصيل، لم أصادف يوما دعاءً يشبهني..وهل أحتاج إلى من يُعيرني دعاءً جاهزاً ومعدا سلفا وقديما ومبهما لينصت إليّ الله؟؟..

الله قريب جدًّا منِّي بما يكفي، لم أشأ إزعاجه بدعائي وطلباتي، أقول له شكرا، وجودك يكفيني..

منبر

فاطمة الإفريقي
إعلامية
فاطمة الإفريقي
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال