القائمة

أرشيف  

في الذاكرة [17#] : ابن رشد.. الفيلسوف الذي أمر يعقوب المنصور بنفيه وإحراق كتبه

يعد ابن رشد واحد من أهم الفلاسفة العرب والمسلمين، ولد بمدينة قرطبة في القرن الثاني عشر للميلاد، وانتقل إلى مراكش في عهد الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، واهتم بدراسة مؤلفات أرسطو، لكن بعد تولي يعقوب المنصور الحكم، قدم إلى المحاكمة وأحرقت كتبه.

نشر
ابن رشد/ توضيب محمد المجدوبي، يابلادي
مدة القراءة: 5'

يعتبر أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، والمعروف باسمه اللاتيني "أفيرويس"، وهو من مواليد سنة 1126 بقرطبة، واحد من أهم الفلاسفة المسلمين وأكثرهم شهرة.

 ترعرع ابن رشد في وسط يهتم بالعلم والمعرفة، إذ كان جده كما كان والده قاضيا، كما أن قرطبة كانت آنذاك إلى جانب القاهرة مركز العالم الإسلامي بعد تراجع دور بغداد، وهو ما ساعده على التمكن من العلوم الشرعية والعقلية في سن مبكرة من حياته.

وبالموازاة مع ذلك كانت الدولة الموحدية التي كانت تبسط سيطرتها على المغرب والأندلس، تعيش فترة ازدهار، وكانت تولي اهتماما بالعلم والعلماء.

وكان ابن رشد على اتصال وثيق بالفيلسوف والأديب ابن طفيل الذي كان يشتغل طبيبا خاصا للخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن الذي كان معروفا بحبه للعلم والعلماء، حيث ضم بلاطه علماء كبار في كافة العلوم كعلوم الدين والفلسفة والهندسة والطب.

وقدم ابن طفيل ابن رشد للخليفة، لتبدأ فترة ازدهار النشاط الفكري للفيلسوف الأندلسي، حيث انكب على دراسة مؤلفات أرسطو تلخيصا و شرحا، كما أنه تقلد بالموازاة مع ذلك  مناصب مختلفة، فقد عينه الخليفة قاضيا لإشبيلية سنة 1169، ثم قاضياً في قرطبة سنة 1171، ثم أصبح طبيب الخليفة وجليسه سنة 1182، ليعود إلى قرطبة ويتولى القضاء فيها.

وكان ابن رشد يسمى في أوروبا "المعلق" بسبب كتابته التي علق فيها على فلسفة أرسطو، وهي التعليقات التي كانت الأكثر انتشارا بين تعليقات الفلاسفة الآخرين، وساعد من خلالها في تقديم أرسطو إلى أوروبا.

ويؤكد نبيل عبد الحميد عبد الجبار في كتابه تاريخ الفكر الاجتماعي، أن ابن رشد ألف "الكثير من المؤلفات، علاوة على شروحه لكتابات أرسطو، غير أن شروحاته هي التي شاعت أكثر وجعلته يشتهر ويعرف بلقب الشارح، ولقد جاء شرحه لمؤلفات أرسطو باقتراح من أستاذه ابن طفيل".

فيما يذهب وسام عبدو اللحام في كتاب "ابن رشد ودعوته إلى الفلسفة"، إلى أن فيلسوف قرطبة آمن "بالعقل وعمل على الإعلاء من شأنه وذلك عبر تعلقه بمبادئ الفلسفة المشائية التي كانت تمثل في عصره أرقى ما وصل إليه التيار العقلاني".

ولم يقتصر علم ابن رشد على الفلسفة فقط، بل كان فلكيا وطبيبا وله خلفية واسعة في علوم الدين، ويقسم الكاتب والمفكر المغربي محمد عابد الجابري مؤلفات ابن رشد في كتابه "ابن رشد سيرة وفكر" إلى عدة أقسام، وأشار إلى أنه كتب مؤلفات علمية تشتمل على اجتهادات في مجالات مختلفة كالفقه والطب، والردود النقدية، والمختصرات التي يدلي فيها ابن رشد بآراء اجتهادية.

وأكد الجابري في كتابه أن ابن رشد "عاش خمسة وسبعين سنة قضاها كلها في الدراسة والتدريس والبحث والتأليف. ومع أنه تولى قضاء إشبيلية ثم قضاء قرطبة، وتنقل كثيرا مع الخليفة المتنور أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن، بين المغرب والأندلس، فقد بقي مشدودا إلى مشاريعه العلمية، يعوض بالعمل في الليل ما فاته في بالنهار، مستصحبا معه كتبه وأوراقه مستغلا فرص الاستراحة في الطريق، على الأرض أو على مراكب السفر، يحقق مسألة أو يسود أوراقا أو يراجع كتابا".

محنة ابن رشد

لكن بعد وفاة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وخلافته من قبل ولده يعقوب المنصور دخلت دولة الموحدين بحسب ما يحكي محمد عابد الجابري في "طور الانحطاط" في المجال الثقافي، وبدأ الهجوم على العلوم العقلية، ولم يكن الأمر مقتصرا على المغرب، بل كان الأمر مماثلا في بغداد التي كانت تحت حكم الخلافة العباسية، حيث يؤكد أبي حيان التوحيدي في كتابه "الإمتاع والمؤانسة"، أنه تم التنكيل بعدد من الفلاسفة والمفكرين.

وبدأ رجال الدين الذين لم ترقهم كتابات وأفكار ابن رشد، في انتقاده وحث السلطان على محاكمته حيث يورد إرنيست رينان في كتابه "ابن رشد والرشدية" (ترجمه عادل زعيتر)، أنه "لا يمكن الشك في أن الفلسفة كانت عامل محنة ابن رشد الحقيقي، ذلك أنها صنعت له من الأعداء الأقوياء ما جعلوا صحة اعتقاده موضع شبهة لدى المنصور".

وبالفعل أمر المنصور بتقديمه للمحاكمة في مراكش وأدين بالزندقة ونفي إلى قرية يهودية في الأندلس تسمى أليسانة، وأصدر المنصور بحسب ما جاء في كتاب محمد عابد الجابري "منشورا عممه على جميع بلاد المغرب والأندلس، يأمر فيه بإحراق كتب ابن رشد، وكتب الفلسفة وعلومها".

وبعد سنوات عفا المنصور عنه وعاد إلى مراكش، وذلك بعد أن شهدت جماعة من الأعيان بإشبيلية "لابن رشد أنه على غير ما نسب إليه، فرضي المنصور عنه وعن سائر الجماعة وذلك في سنة خمس وتسعين وخمسمائة". حسب ما يحكي صاحب كتاب "ابن رشد سيرة وفكر".

وعلم المنصور متأخرا أهمية ابن رشد وكتاباته، حيث جاء في  كتاب علماء عرفهم الإسلام لحازم محمد، أن الفيلسوف الأندلسي "استرد حظوته في بلاط الموحدين"، لكنه توفي في السنة ذاتها (1198) تاركا إرثا كبيرا ساعد في إنارة طريق الإنسانية.

ودفن حسب الكاتب نفسه "أولا بمراكش لمدة ثلاثة أشهر فقط، ثم نقل منها إلى قرطبة مسقط رأسه ودفن بها في روضة آبائه، وبموته فقدت الفلسفة أكبر نصير لها في الأندلس والعالم الإسلامي عامة".

يقول محمد يوسف موسى في كتابه "ابن رشد الفيلسوف" لقد "كان ابن رشد إمام عصره في الفقه وعلوم الفلسفة، وكان مع ذلك أشد الناس تواضعا، وأخفضهم جناحا، فهل هذا علة ذاك أم العكس؟ أي أنه كان كبيرا في علمه فكان كبيرا في تواضعه".

ويضيف "وقد عرف العالم فضله في الوقت الذي كان ينكره ولا يعرفه فيه العرب، وما تأخروا إلا بتركهم ملكة العقل التي يعد ابن رشد أحد أبرز روادها".

 ومما لا شك فيه أن ابن رشد يعتبر واحدا من العلماء والفلاسفة المسلمين، الذين لعبوا دورا كبيرا في تكوين الفكر الأوروبي، وساعد في رفع قبضة الكنيسة الكاثوليكية عن الحياة الفكرية، وهو ما يعترف به الرسام الإيطالي رفائيلو سانزيو (1483- 1520)، حيث وضع في لوحته الشهيرة "مدرسة أثينا" التي تصور علماء الفلسفة يتحاورون ، (وضع) ابن رشد إلى جانب أرسطو، وأفلاطون، وسقراط، وألسيبياد، وأبيقور، وبيتاغور، وفلاسفة آخرين ممن تركوا إرثا ساهم في تقدم البشرية.

كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال