القائمة

أخبار

دياسبو # 140: من فكيك إلى باريس.. قصة "بابي شوكولا" الملهمة

رغم قضائه فترة قصيرة في مقاعد المدرسة الابتدائية، قبل مغادرتها نهائيا، إلا أن جلول ابن مدينة فكيك، تمكن من إتقان اللغة الفرنسية نطقا وكتابة، وهو ما قاده إلى الهجرة نحو العاصمة الفرنسية في الخمسينات. كان أحفاده الذين رحل عليهم دون أن يودعوه يلقبونه بـ "بابي شوكولا".

نشر
جلول خياطي
مدة القراءة: 5'

جلول خياطي أو "بابي شوكولا" كما ينادي عليه أحفاده الذين اعتادوا على تقديمه الحلويات والشوكولا لهم في كل مرة كانوا يقابلونه، هو مغربي ولد بمدينة فكيك عام 1935 التي تقع على الحدود مع الجزائر. ورغم المجاعة الكبرى التي ضربت المغرب (1940-1947) في عهد الحماية الفرنسية، كان جلول صغير أسرته المكونة من ستة أطفال، محبا للحياة. قضى فترة قصيرة في مقاعد المدرسة الابتدائية، احتفظ فيها باللغة الفرنسية أو "غنيمة الحرب" كما يصفها الكاتب الجزائري كاتب ياسين، إذ تعلم خلالها الكتابة باللغة الفرنسية وأيضا التحدث بها. وفي حديثها مع موقع يابلادي قالت ابنة خياطي "بحسب ما نتذكر، طوال عمره كان يتكلم ويقرأ الفرنسية بطلاقة، كما كان خطه جميلا جدا". وهي اللغة التي قادته للهجرة إلى العاصمة الفرنسية عام 1957.

بدأ الشاب جلول حياته المهنية بفرنسا في شركات لصناعة السيارات، حيث اشتغل بشركة سيمكا ثم رينو، لكنه في الأخير قرر ترك فضاءات المصانع، ليشغل وظيفة تمكنه من التنقل بكل أريحية في أزقة وشوارع باريس، وأصبح بذلك عامل توصيل بمغسلة تقع في الدائرة الثانية عشرة. اشتغاله لعدة سنوات بهذا المجال، مكنه من اكتشاف ومعرفة جميع زوايا العاصمة الفرنسية.

في عام 1974، قرر لم شمل أسرته وإحضار زوجته فاطنة وأبناءه الثلاثة، حيث عاشوا حياة سعيدة في الدائرة الثالثة عشرة، خصوصا بعدما كبرت العائلة التي شهدت ولادة صبي وفتاة أخرين. وفي عام 1980 وبعد حفظه لممرات العاصمة الفرنسية عن ظهر قلب، قرر اجتياز اختبار الحصول على رخصة قيادة سيارة أجرة.

" كان فخورا جدا بهذا الإنجاز، لأنه في ذلك الوقت، كان عليك أن تحفظ جميع شوارع باريس، وأيضا معالمها الأثرية، وأن تكون لك القدرة أيضا على تحديد مكان نقطة بداية شارع ما ونقطة نهايته".

رشيدة خياطي

وبعد تمكن جلول من الحصول على رخصة قيادة سيارة الأجرة، انضم إلى شركة لسيارات الأجرة، ولكن بعدها بوقت قصير جدا، اشترى رخصة سيارة أجرة بماله الخاص، وهو ما مكنه من الاشتغال لحسابه الخاص. واستمر سائق التاكسي الذي جاء من فكيك في التجول بشوارع باريس حتى حلول عام 2000 حيث أحيل إلى التقاعد، ليستريح بعد سنوات من العمل والكفاح، إذ أنه ولحسن حظه، لم يواجه البطالة ولم يقدم أيضا أي إجازة مرضية منذ وصوله إلى فرنسا.

"كان والدي يعرف بكفاحه، كان يعتمد على نفسه ولم يكن بحاجة لأحد، كما كان يطمح دائما لتوفير كل شيء لأبنائه"

رشيدة خياطي

بعد هذه الفترة، قرر المتقاعد المغربي قضاء أكبر وقت ممكن في بلده، إذ أصبح يتنقل كثيرا بين فرنسا وفكيك، إلى أن أصيب في 2013 بسكتة دماغية تسببت في حالة من الذعر وسط عائلته، لكن ولحسن الحظ، تمكن الرجل المكافح من التغلب عليها. في 2016 تعرض لإصابة أخرى، وهذ المرة، بسرطان المريء، ليخضع لعملية جراحية في باريس، أعقبها علاج صعب وطويل.

في نهاية فبراير 2020، بعد حصص من العلاج الكيميائي، بدأت حالة جلول الصحية تتحسن شيئا ما، وسمح له الطبيب الذي كان يشرف على علاجه، بالذهاب إلى المغرب من أجل قضاء بعد الوقت في فكيك والاستراحة قليلا، قبل العودة لبدء سلسلة جديدة من العلاج، والتي كان من المقرر أن تبدأ في أواخر مارس الماضي.

لكن وقع ما لم يكن في الحسبان، بعد ظهور فيروس كورونا، حيث قرر المغرب في 20 مارس، فرض حالة طوارئ الصحية، وبالتالي إلغاء رحلة عودة الزوجين، التي كانت مبرمجة في 22 مارس. هذا الأمر، كان بداية كابوس طويل لجميع أفراد عائلة الخياطي. إذ حاول أبناء الرجل المكافح إيجاد حل لأبيهم، وقاموا بالاتصال بالقنصلية الفرنسية في المغرب من أجل ترحيله بشكل استعجالي ضمن الطائرات التي تم تخصيصها في البداية لإعادة السياح الفرنسيين. كما قام أبناء جلول بإرسال شهادة طبية مرخصة من طرف الطبيب المشرف على علاجه في باريس، يفسر فيها خطورة حالة جلول الصحية. وتقول رشيدة خياطي "بروتوكول العلاج الكيميائي الذي كان يتبعه والدي غير موجود في المغرب". وبعد توصل القنصلية الفرنسية بوجدة بهذه الشهادة، وضعت اسم جلول في قائمة الأشخاص الذين لهم حق الأولوية في العودة.

لكن أمل العودة إلى فرنسا من أجل استكمال العلاج، بدأ يندثر يوما بعد يوم، إلى أن جاء اليوم الذي تم الإعلان فيه عن أن الرحلات محجوزة للفرنسيين فقط، وأن المغرب لن يسمح للمغاربة ولا للحاملين للجنسية المزدوجة بالعودة. وهو ما أدى إلى تدهور حالة جلول أكثر فأكثر. هذا الرجل الذي كان يجوب شوارع باريس ويحفظها عن ظهر قلب، لن يعرف طريق العودة هذه المرة إلى فرنسا.

"في 9 أبريل 2020، رحل عنا والدي الذي كان يأمل في العودة إلى عائلته واستئناف علاجه. رحمة الله عليه"

رشيدة خياطي

رحل "بابي شوكولا" تاركا وراءه أبناءه وأحفاده، وأيضا زوجته فاطنة في حداد وحيدة بالمغرب، بعيدة عن أسرتها. تسبب هذا الوباء العالمي، في معاناة كبيرة لمجموعة من العائلات، لكن وفاة جلول تذكرنا أن هناك أرواحا ترحل عنا بسبب بعض القرارات، والتي كان من المفترض أن نجد حلولا لتجاوزها استثنائيا، وإدراج أسمائهم أمثال جلول في قائمة المسموح لهم بالمغادرة.

كل أولئك الذين كان يعرفوه سيحتفظون حتما بذكرى رجل طيب ومكافح، يشع بالفرح وروح الدعابة، لم يتخيل في يوم أن تكون نهاية قصته بهذا الشكل، لكن على الأقل تحققت رغبته في أن يدفن مثل أسلافه، في أرض وطنه، وتحديدا مسقط رأسه مدينة فكيك. وداعا جلول وإنا لله وإنا إليه راجعون.

كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال