القائمة

الرأي

قراءة في علاقة الإسلام بفرنسا

هل هو هدوء ما قبل العاصفة ؟ أم تحوُّل حقيقي في السياسة الفرنسية نحو صلح مع الإسلام؟

لقد شَهِدت العَلاقة بين السياسيين الفرنسيين والإسلام بفرنسا، والمسلمين بصفة خاصة وقضاياهم هذه الأيام الأخيرة - نوعًا من الهدوء، لا سيما بعد العاصفة الناتجة عن الهجمات المتوالية، والحملات المسعورة التي عاشتها طوال السنوات الأخيرة في ظل حكومة الرئيس "ساركوزي".

نشر
DR
مدة القراءة: 7'

قد تنفَّس المسلمون بفرنسا الصُّعَداء في بداية دخول رمضان، بعد الهدوء الذي جاءت به الحكومة الاشتراكية إثر سقوط الرئيس "ساركوزي" وحكومته، إلا أنهم تفاجؤوا بحمل قصاصات الأخبار قضيةً مثيرة تتعلق بتسريح أربعة شبان فرنسيين مسلمين، يشتغلون شهر رمضان في رفقة ورعاية أطفال مخيَّم صيفي من طرف عامل مدينة"جانفيلييي"، وينتمي للحزب الشيوعي، لكن القوى الفاعلة - وخاصة المنظمات الإسلامية والحقوقية منها - تحرَّكت بعقلانية، وشكَّلت قوة ضغط، وطالبت باحترام القانون، وخاصة قانون الشغل، وبالتهديد برفع الدعاوى ضد رئيس البلدية المشغِّل إذا ما تمادى في قراره.

وبعد أسبوع تقريبًا غيَّر رئيس البلدية موقفه، وألغى الفقرة المنصوص عليها في عقد الشغل، والمُلزِمة للشباب بالإفطار في رمضان؛ حماية للأطفال المحروسين، وذلك حسب تبريره لنبأ تسريح شبان مسلمين في رمضان، وكان مفروضًا عليه قانونيًّا توضيح العَلاقة بين الشغل والصوم.

ومن ثم المقصود في القضية دين الإسلام، أو ملاءمته للشغل أثناء القيام بواجب ديني.

وللتذكير ببعض الأحداث التي شَهِدتها فرنسا، فقد تحالفت جُلُّ القوى الموالية للحاكم "ساركوزي" وحكومته، سواء من وسائل الإعلام، أو من السياسيين اليمينيين والعنصريين، في إعطاء صورة مخوِّفة، وصورة نمطية عن الإسلام، تتجلى في عدة صور مختلفة، وتخدم نفس الأهداف، ومنها:

- بدء الحرب على الحجاب، وليس فقط في المدارس، بل وفي كل مكان.

-الحرب على اللحم الحلال، وعلى البُرْقُع، وعلى الصلاة في الشوارع، والحرب على الأمهات المسلمات المتحجبات، بل حتى في بيوتهن، والحرب على المهاجرين، وقوانين التجنيس، وحق التصويت في الانتخابات البلدية.

- والحرب على المكونات الإنسانية والحضارات وعدم تساويها... إلخ.

وأكثر هذه الصور النمطية وأخطرها، ما خلفته سياسة "جورج بوش" السلبية ضد الإسلام؛ أي: الحرب على الإسلام باسم الإرهاب.

واستغلال واستعمال جرائم الأفراد مثلاً كحادثة "مراح"، التي لم توضَّح خلفياتها وخيوطها إلى الآن، وبالمناسبة فقد رفع وزير الداخلية الجديد الستر عن الولوج لملف القضية، كما أشارت الصحافة الشهر الماضي؛ حتى توضَّح الحقائق، وخلفيات هذه القضية الغامضة، والتي شغلت الرأي العام الدولي، بسبب سياسة الإعلام للحكومة السابقة، واستغلال الصور النمطية عن الإسلام؛ حيث عمد الرئيس "ساركوزي" لاستغلال الحادثة للتشهير، ولأغراضه الانتخابية، كما فعل "ج. بوش" بالعراق؛ حيث قام بنفس المقارنة "ساركوزي"، وقال: إنه يوم حادي عشر فرنسي آخر، بل تجرَّأ أمام استغراب خصومه، وأوقف يومًا الحملة الانتخابية، متناسيًا أن هناك أيضًا ضحايا مسلمين أبرياء، عبارة عن 3 جنود مظليين مسلمين فرنسيين.

وهكذا نلاحظ بوضوح كيف يتعامل الرئيس "ساركوزي"، ويستغل الأحداث التي لم يقل القضاء بعدُ كلمتَه فيها، ويستغل دين الإسلام الذي يعني السلام، ويستعمله كصورة نمطية تعني العكس مما يحمل من معانٍ سامية؛ لأغراضه ومواقفه الانتهازية، ولحصد أصوات اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية، والتي أطاحت به؛ نظرًا لشك شعب فرنسا وشبابه في سوء نيات الرئيس "ساركوزي"، وبذلك فَقَد الثقة في الفوز.

وتجدر الإشارة - بعد وصول الرئيس الاشتراكي الجديد والحكومة الحالية - إلى شعور الجالية المسلمة المقيمة بفرنسا بشيء من الارتياح، الذي تزامن مع الأجواء الروحانية لشهر رمضان كذلك.

وتزامنت موجة الهدوء والاطمئنان الحالية في الجالية المسلمة بفرنسا، بعد الاستقبال الذي خص به وزير الداخلية الفرنسي الجديدُ ممثلي الجاليات المسلمة بفرنسا، خاصة بعد تصريحاته خلال زيارته للمغرب، ولقائه مع المسؤولين عن الشأن الديني، وخاصة السيد مدير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي الدكتور "التوفيق أحمد"، وصرَّح خلال ذلك للصحافة؛ حيث قال: "من الآن فصاعدًا لا يجب استعمال واستغلال دين الإسلام للأغراض السياسية، وسأرعى ذلك بصرامة"، في إشارة واضحة إلى الهجمات المُغرِضة التي كان ضحيتَها الإسلام والمسلمون بفرنسا؛ بسبب سياسة "ساركوزي" السابقة؛ حيث وصلت به الوقاحة والجرأة إلى أن يطلب اقتراح حوار وطني للبحث في مفهوم المواطنة الفرنسية، ولكنَّ المقصود منه هو جعل الإسلام موضوعَ ومحور هذا الحوار، الشيء الذي تنبَّهت له جُلُّ الأطياف الدينية والمسؤولون وممثلو الديانات، والذين رفضوا هذا الاقتراح الذي قد يشكل هُوَّة وحاجزًا في قضية الوحدة والهُوِيَّة الوطنية الفرنسية.

وفي نفس الاتجاه، والانفتاح، والحوار الذي قام به وزير الداخلية الحالي - ودائمًا في نفس السياق - صرَّح كذلك من جهته وزير الخارجية الجديد "ألان فابيوس" في ندوة عُقِدت عن الربيع العربي، بضرورة فتح قنوات الحوار مع المجتمعات والدول التي شهدت الربيع العربي، وخاصة دول الجوار، وتدارك خطأ الدبلوماسية الفرنسية للحكومة السابقة، بالرهان سابقًا على الديكتاتوريات في تونس، وقمع الثورة، وتقديم السلاح، واستغلال السفريات الشخصية، والعَلاقة بين الرئيس "بن علي" ووزيرة الداخلية الفرنسية السابقة "اليو ماري".

وتجدر الإشارة إلى أن التغيير الحالي في السياسة والدبلوماسية الفرنسية جاء بعد توجيه أصابع الاتهام من الخارج لسياسة فرنسا وللحكومة السابقة.

والذي يؤكِّد ذلك تقارير دولية مهمة؛ فقد جاءت متقاربة، كتقرير كل من المنظمة الدولية "هيومان رايت ووتش"، وتقريرها حول عدم احترام حقوق الإنسان، وخاصة التمييز العنصري والتدخل في لباس وثقافة الإنسان الفرنسي، وإصدار قوانين مجحفة، ومخالفة للقوانين الدولية وخاصة ميثاق الأمم المتحدة.

ثم جاء من بعد ذلك تقرير آخر، صدر من المفتش الخاص  لدى المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان، والذي صدر حديثًا في الشهر "يوليوز"، والذي أشار إلى الانتهاكات التي تقوم بها السلطات الفرنسية تجاه المواطنين المسلمين، والتمييز والحيف العنصري في العديد من المجالات كالشغل، والسكن، والتنقل، وأماكن العبادة، وخاصة موجة التخويف من الإسلام، والصور النمطية التي يتعرض لها الأفراد والجماعات من المسلمين بفرنسا، وطالب باحترام القوانين، وإعطاء المسلمين حقوقهم المشروعة، وبعدم استغلال الدين الإسلامي في الشؤون السياسية ولأغراض انتخابية، بل يجب الاهتمام بالجانب الاجتماعي الإدماجي للشباب في الضواحي، وحصولهم على الحقوق المخولة لهم قانونًا.

هكذا تتعرض فرنسا - بلاد ومهد حقوق الإنسان - لانتكاسة في جانب الحقوق هذه السنوات الأخيرة؛ بسبب السياسية الاستعلائية، وسياسة الأرض المحروقة، وما تركته حكومة "ساركوزي" من إرث ثقيل، يجب القطع فيه.

وللتذكير أيضًا في هذا السياق تراجعت حرية الصحافة، وحرية التعبير في فرنسا؛ لتصل إلى مرتبة بين "الموزمبيقي"والمغرب مدة عشر سنوات، فقدت فيها فرنسا موقعها من حيث حرية الصحافة، وحرية التعبير؛ بسبب القوانين، وبسبب تعيين رؤساء أهم القنوات التلفازية من طرف الرئيس "ساركوزي"، وبسبب التداخلات بين المصالح العامة والشخصية والانتخابات، أو التوجهات السياسية للحزب الحاكم، والدعم المالي للإعلام، وخاصة المنع الصادر لعدة كتب تنتقد الرئيس السابق "ساركوزي" وعَلاقاته، وتمويل حملته الانتخابية السابقة، ومقاضاته للجرائد الإلكترونية التي فضحت هذه القضية.

وهكذا يظهر بوضوح أن حرية التعبير يكال لها بمِكْيَالين، حين يمسُّ الأمر قضايا شخصية وأصحاب النفوذ السياسي؛ كالسياسيين، والصحافيين، فحرية التعبير جاءت لتحمي الضعيف من القوي وليس العكس.

ولا بد من التذكير بالمقصود؛ فإنه لما تم نشر الرسوم الساخرة من طرف جريدة "شارلي هبدو" الفرنسية؛ تم ترقية رئيس الصحيفة مباشرة إلى مدير للبرامج وقنوات الإذاعة الفرنسية، فبمَ يُفسَّر هذا؟

لا يفسر إلا بالرغبة المسبقة، وقصد التأثير على مجرى الإعلام، وحرية التعبير والصحافة لصالح الحزب الحاكم، وخاصة حين يتعلق الأمر بإصدار الرسوم المسيئة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تعتبر جريمة دولية، بما أنها ستثير الشغب، وأحداثًا خطيرة من ردود فعل أفراد وجماعات سيحسون بالظلم، وإثارة مشاعر الملايين من المسلمين، وهو أمر مخالف للنظام العام، والأمن والسلم الدوليين، والتعاون والحوار بين الشعوب، والذي تسعى وتهدف اتفاقيات الأمم المتحدة، والمجتمع الدولي، والهيئات والمجتمعات الديمقراطية بالغرب والشرق - إلى الحفاظ عليه، وتكريسه، وتفعيله من خلال الندوات، والاتفاقيات الدولية؛ كقرار "11 أبريل 2011"، الصادر عن الأمم المتحدة.

وفي نفس السياق من جهة أخرى، عيَّنت فرنسا - ولأول مرة - سفيرًا لها لدى منظمة المؤتمر الإسلامي بجُدَّة، وهذه في حد ذاتها بادرة حسنة، وتشير إلى تغير وتحول في السياسة الدبلوماسية الفرنسية، نحو سياسة استباقية، فهل ستتدارك فرنسا دورها الريادي، وتعيد التوازن في مصالحها الحيوية المستقبلية، والعودة إلى السياسة الديغولية،أم هو مجرد هدوء ما قبل العاصفة؟

منبر

الاستاد عمر الزاهري
...
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال