القائمة

أخبار

كرة القدم تتسرب عبر شقوق جدران سياسة الانقسام المغاربية

قد تكون دوافع الابتهاج في أي بلد عربي أو أفريقي بنتائج المنتخب المغربي الباهرة في مونديال قطر متشابهة، بيد أنها تأخذ نكهة خاصة عندما تأتي من بلد مغاربي. كما أن لغة كرة القدم بين الجيران المغاربيين لا تخلو من طابع سياسي.

(مع DW)
نشر
DR
مدة القراءة: 10'

في انتظار أن تظهر إحصاءات دقيقة من الفيفا أو معاهد متخصصة، قد يكون المنتخب المغربي في طريقه ليحقق رقما قياسيا جديدا من حيث عدد المشجعين في القارات الثلاث: أفريقيا وآسيا وأوروبا. 

الاحتفال ببلوغه ربع النهائي (دور الثمانية) في مونديال قطر 2022، تجاوز الفضاءات التقليدية لمشجعي كرة القدم، فمن غير المسبوق أن توحدت مشاعر جماهير كروية بفوز منتخب بلد عربي أو أفريقي في نفس الوقت على نطاق واسع في عشرات البلدان الأفريقية والعربية والآسيوية والأوروبية، من الدوحة إلى الرباط مرورا بالقاهرة، ومن داكار إلى جاكرتا وإسطنبول إلى عواصم أوروبية عديدة.

بل إنه من النادر أيضا أن يوحد منتخبُ بلدٍ من المنطقة مشاعر الجماهير الكروية بالأراضي الفلسطينية وإسرائيل في نفس الوقت، رغم المفارقة القائمة في المشهد، عندما يحتفل مئات الآلاف من اليهود المغاربة في إسرائيل بالمنتخب المغربي، الذي لا تنسيه غمرة أفراحه بالفوز على أبطال العالم عام 2010 أن يرفع العلم الفلسطيني في ملعب المباراة.

 مظاهر احتفالية تخترق "الجدران" 

إثر مباراة ثمن النهائي التي فاز فيها المنتخب المغربي على نظيره الإسباني توافدت جماهير جزائرية على موقع حدودي قبالة مركز لجراف قرب مدينة السعيدية في شمال شرق المغرب، لتهنئ جيرانها المغاربة، ولترتفع أعلام البلدين والأهازيج وإيقاعات شبه موحّدة بحكم التقارب الثقافي والمجتمعي والقبلي بين سكان شرق المغرب وغرب الجزائر، متحدية الحواجز الحديدية والخنادق والجدران التي أقيمت على حدود البلدين المغلقة بقرار جزائري منذ صائفة سنة 1994، ردا على اتهامات مغربية للاستخبارات الجزائرية بالضلوع في حادث اعتداء إرهابي على فندق أطلس آسني بمراكش.

تبدو احتفالات الجماهير على جانبي الحدود وكأنه نسخة من مشهد احتفالات جرت في عام 2019، عندما هبت جماهير من الجانب المغربي لتهنئة جيرانها الجزائريين بفوز منتخبهم بكأس أمم أفريقيا.

بيد أن ما يضفي على هذه الاحتفالات نكهة خاصة هو أنها تأتي بعد عام ونيف من قرار الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب. في بدايات المونديال نقلت بعض مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو من مقهى بالجزائر العاصمة وبعض الاستطلاعات التي أجرتها قنوات جزائرية، تظهر عددا من المتابعين الجزائريين لفعاليات مونديال قطر، وهم يرفضون تشجيع منتخب الجار المغربي ويكتفون بإبداء مساندة للمنتخبات العربية الأخرى المشاركة في المونديال: تونس، قطر والسعودية.

وبدا ذلك وكأنه قطعة من مشهد القطيعة السياسية والحملات الإعلامية المتصاعدة بين البلدين منذ سنتين. لكن سرعان ما تغير المشهد عندما بدأت ترتفع أصوات المشجعين الجزائريين للمنتخب المغربي في المقاهي بالمدن الجزائرية والأوروبية، حيث يتابع جمهور واسع مباريات المونديال وعبر مقاطع الفيديو والاستطلاعات التي تبث في مواقع التواصل الاجتماعي.

وفي مشهد آخر لا يخلو بدوره من الإثارة، شهد شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس خروج آلاف المشجعين التونسيين يرفعون الرايات المغربية والتونسية احتفالا بعبور المنتخب المغربي إلى دور ربع النهائي في مونديال قطر. وأشعل المحتفلون في الشارع الشهير، الذي يُعَد الميدان التاريخي لاحتفالات التونسيين ومظاهراتهم واحتجاجاتهم، الشماريخ وصدحت حناجرهم بالأهازيج المغاربية.

ملاعب كرة القدم ميدان للسياسة أيضا 

يتميز الاحتفال المشترك والمتبادل بين الجماهير الكروية في البلدان المغاربية الثلاثة عن سائر ما يحدث بين أي بلد منها مع بلدان أخرى عربية أو أفريقية، لأنها قصة متجذرة منذ حوالي قرن من الزمن، وهي تتميز بأجواء "دربيات" الجيران التي لا تخلو من المنافسة والندية والاحتكاك أحيانا، وتمتزج بروح التضامن والتقارب في المشاعر والثقافة والأحلام. ولا تخلو الأجواء الكروية في البلدان المغاربية، محليا أو إقليميا، من خلفيات وأبعاد سياسية.

فقد نشأت لعبة كرة القدم وأشهر الأندية المغاربية مثل الترجي الرياضي التونسي (1919) وغريمه النادي الأفريقي (1920) والوداد البيضاوي (1937) والرجاء البيضاوي (1949) في أحضان الحركة الوطنية ومعاقلها التاريخية، وكانت بمثابة مدرسة للتربية على حب الوطن والكفاح ضد المستعمر الفرنسي. ورغم فرض سلطات الاستعمار موانع ضد تأسيس أندية جزائرية مستقلة عن أندية المستوطنين الفرنسيين، فقد نشأ مولودية وهران سنة 1946 في أوج قمع سلطات المستعمر لأي مظاهر تجسد الشخصية والهوية الجزائرية المستقلة، كما نشأ أول منتخب جزائري لكرة القدم من رحم جبهة التحرير الوطني سنة 1957 في زمن عنفوان الثورة الجزائرية.

ولم يكن من باب الصدفة أن يفرض الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) سنة 1958 عقوبات على المنتخب المغربي بحرمانه من المشاركة في كأس أفريقيا، لأنه تحدى قرار مقاطعة المنتخب الجزائري، الذي أقره "فيفا" بضغط من سلطات الاستعمار الفرنسي، التي كانت ترفض الاعتراف بالمنتخب الجزائري. وتزامن ذلك مع مؤتمر طنجة التاريخي الذي شاركت فيه الأحزاب الوطنية في البلدان المغاربية الثلاثة بحضور الملك الراحل محمد الخامس والرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وكان المؤتمر تجسيدا لتضامن البلدين المغاربيين المستقلين حديثا (1956) مع الجيران الجزائريين من أجل استقلال بلدهم، ومن أجل وضع أسس الوحدة المغاربية، كما كانت تحلم بها الأجيال المغاربية.

وفي عهد دولة الاستقلال لعبت الأندية الرياضية العريقة دورا إيجابيا في التلاحم الوطني والمساهمة في ترية الأجيال على بناء الدولة الحديثة في البلدان المغاربية، وهذه ليست خاصية مغاربية، فلطالما لعبت كرة القدم دورا في تعبئة المشاعر الوطنية من أجل تحقيق إنجازات تاريخية، على غرار الدور الذي لعبته "معجزة بيرن" للمنتخب الألماني في كأس العالم سنة 1954، في تعبئة الروح المعنوية لدى الألمان بعد الحرب العالمية الثانية.

بيد أن قصة الأندية المغاربية لكرة القدم بحكم عراقتها وارتباطها بجماهير شعبية واسعة؛ تتميز أيضا بكونها شكلت حاضنة لمشاعر وتعبيرات الفئات الاجتماعية، بما فيها في لحظات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، منذ سبعينيات القرن الماضي، وصولا إلى انتفاضات الربيع العربي.

ففي تونس، يرى باحثون في علم الاجتماع أن أولى مظاهر التمرد الشعبي على نظام الاستبداد في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي بدأت خمس سنوات قبل أحداث ثورة 17 ديسمبر 2010 - 14 يناير 2011، التي أدت إلى سقوط نظام بن علي. وفي الدار البيضاء شكلت مدارج وجماهير نادييها العريقين "الوداد" و"الرجاء" حاضنة لشعارات الاحتجاجات الشعبية التي شهدها المغرب سنة 2011. كما شكلت ملاعب كرة القدم الجزائرية على امتداد السنوات الماضية خميرة لاحتجاجات "الحراك الشعبي" التاريخية (2019).

وفي أوج الأزمة في العلاقات المغربية الجزائرية، لعبت جماهير كرة القدم أدوارا لافتة برفع شعارات حماسية في مدارج الملاعب، تعبر عن رفضها لسياسة القطيعة بين البلدين، ومن أشهرها شعار "خاوة خاوة" ( إخوة - إخوة).

وبخلاف ما حدث بين بلدان عربية أحيانا من توظيف لمباريات كرة القدم في تأجيج النزاعات أو الأزمات بين بعض الأنظمة السياسية ( مثلا مصر الجزائر سنة 2009)، فقد ظلت اللقاءات الكروية بين المغرب والجزائر؛ رغم ما يطبعها من أجواء ندية ومنافسة حامية، تتميز بالروح الرياضية والود، وحدث ذلك حتى في أسوأ المراحل التي كانت تجتازها العلاقات، مثل فترة حرب الصحراء في نهاية سبعينيات القرن الماضي. وتشكل حادثة الاعتداء على عناصر من المنتخب المغربي للشباب في نهائي كأس العرب في سبتمبر/ أيلول الماضي بالجزائر العاصمة، نشازا في التاريخ الكروي بين البلدين.

 لمن تقرع نواقيس الجماهير؟ 

احتفالات الجماهير الجزائرية والتونسية بانتصارات المنتخب المغربي، لا يمكن اعتبارها حدثا عابرا أو مألوفا في قاموس توحّد المشاعر المغاربية أو العربية أو حتى الأفريقية، عندما يواجه منتخبا يمثل المنطقة في فعاليات رياضية عالمية كالمونديال.

فاحتفالات التونسيين في شارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة، رغم كونها تجسد التعبير عن مشاعر مغاربية عميقة في المجتمع التونسي، جاءت أيضا في سياق محلي مأزوم على أصعدة كثيرة وهي تعبير عن حسرة الجماهير التونسية لخروج منتخبهم المبكر من المنافسة، رغم تحقيقه إنجازا تاريخيا بالفوز على فرنسا بطل العالم. وقد وصف الإعلامي التونسي برهان بسيّس مزاج التونسيين المحتفلين بالمنتخب المغربي بأنه "نصف فرح بإنجاز رياضي غير مسبوق لمنتخب مغاربي وعربي شقيق في المونديال .. ونصف حسرة على حصيلة المنتخب التونسي المخيبة في مونديال قطر"، كما قال بسيّس في برنامج باذاعة "إي إف إم" المحلية التونسية، مشيرا إلى سياق المقارنات والمنافسة بين البلدين التي لا يخلو منها حديث في مثل هذه القضايا، ومنبهاً إلى حسرة التونسيين أيضا لفشل ساستهم في تحقيق الأرضية الرياضية والبنيات التحتية للوصول إلى ما حققه المغرب، ليس فقط في الرياضة بل أيضا في الاقتصاد.

بيد أن احتفالات التونسيين كانت لافتة للأنظار في السياق المغاربي، لأنها جاءت بعد بضعة أشهر من الفتور في العلاقات وتبادل البلدين سحب السفراء على خلفية استقبال الرئيس قيس سعيّد لزعيم جبهة البوليساريو في مؤتمر أفريقي ياباني حول التنمية. ولم يمر الحادث النادر في العلاقات بشكل عابر بل خلف تداعيات في الأجواء الإعلامية والسياسية بين البلدين، كما وجه ساسة ودبلوماسيون سابقون وإعلاميون ومثقفون تونسيون انتقادات لموقف الرئيس سعيّد لكونه يخرج عن موقف الحياد الإيجابي الذي التزمت به تونس تاريخيا إزاء النزاع بين المغرب والجزائر وفي ملف الصحراء، ويفتح المنطقة على مخاطر سياسة المحاور. فكان لافتا أن يخرج تونسيون بكثافة للاحتفال بعبور المنتخب المغربي لدور الثمانية، ولم ترفع فقط أعلام المغرب في فعالية الاحتفال، بل أنشد الحضور أغنية "الواد وادي يا سيدي .. والعيون عينيا" الشهيرة لفرقة "جيل جيلالة" المغربية التي تتغنى بمغربية الصحراء.

ويرى محللون أن احتفالات جزائريين في ميادين متابعة المونديال والمقاهي وعلى جنبات الحدود المغلقة بين البلدين وعبر مواقع التواصل الاجتماعي بانتصارات المنتخب المغربي، تكتسي أهمية خاصة تتجاوز مجرد المشاعر المألوفة في مثل هذه السياقات. وفضلا عن حالة الإحباط التي أصابت الجماهير الجزائرية لظروف إقصاء منتخب بلادهم وعدم وصوله إلى نهائيات مونديال قطر، تأتي احتفالات جزائريين بمنتخب الجار المغربي في ظل توتر غير مسبوق في العلاقات لا يخلو أحيانا من دق طبول الحرب، وفشل محاولات وساطة عديدة قامت بها عواصم عربية وخليجية بالخصوص، بل حتى القمة العربية نفسها، التي احضنتها الجزائر قبل شهر، فشل هي أيضا في تهدئة الأجواء المتوترة بين البلدين، رغم أن شعارها كان "لم الشمل العربي".

وبينما ترتفع أصوات المشجعين الجزائريين للمنتخب المغربي مع تقدمه في أطوار نهائيات كأس العالم في قطر، تبدو بعض وسائل الإعلام الجزائرية وخصوصا قنوات تلفزية في حالة ارتباك في التعامل حتى مع أخبار نتائج مباريات المونديال عندما يكون الفائز هو المغرب، حيث يتم مثلا بث خبر "اقصاء إسبانيا بضربات الترجيح" دون ذكر المنتخب الفائز!

فيما يؤشر إلى "صمت حرج" للسياسة والإعلام الرسمي الجزائري، الذي هيمن على قاموسه في السنتين الأخيرتين بالخصوص خطاب حادّ وكأن البلدين في حالة حرب، على حد وصف الكاتب الصحفي الجزائري سعيد أرزقي، في مقال له بمجلة "جون أفريك"، الصادرة في باريس.

وفي غضون ذلك، يلوذ الرسميون في الجزائر، الذين ترأس بلادهم القمة العربية، لحد الآن، بالصمت إزاء وصول أول منتخب عربي إلى ربع نهائي المونديال في تاريخ اللعبة. وبخلاف ما اعتاد عليه الزعماء العرب والأفارقة بتبادل التهاني في مثل هذه المناسبات، حيث وجه الملك محمد السادس رسالة تهنئة للرئيس عبد المجيد تبون بمناسبة فوز المنتخب الجزائري في كأس الأمم الأفريقية سنة 2019، لم يوجه قصر المرادية في الجزائر رسالة مشابهة للقصر الملكي في الرباط، التي تلقى رسائل تهاني من زعماء عرب وأفارقة، بإنجازات منتخب "أسود الأطلس" التاريخية باعتباره ممثلا للعرب والأفارقة.

فهل تؤثر أجواء التضامن الشعبي المغاربي ومياه كرة القدم المتسربة من شقوق جدران سياسة الانقسامات المغاربية في تغيير وقائع سياسة الجفاء التي طال أمدها في المنطقة؟ وهل ستساهم في تعقيد أوضاع وأزمات بلدانها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما تتسبب في إضعاف قدرات دولها في خارطة المنافسة العالمية؟

منصف السليمي

كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال