القائمة

الرأي

في أزمة المثقف القومي

 

يعيش المثقف القومي سياقا صعبا، فبعد أن كان مُنظرا لدولة العرب الواحدة الممتدة "من الماء إلى الماء"، أصبح معظم عمله رثاء الوقت والبكاء على أطلال أنظمة العسكر البائدة، تلك التي كان يمتدح حكامها أبطال "الممانعة" ضدّ إسرائيل والغرب، والذين كان يسكت عن كل جرائمهم ضدّ شعوبهم بحجّة أنهم الخيار الوحيد الذي لا بديل عنه، وحتى عندما قبض على صدّام حسين الذي أخرج من جُحر ضيق، ظلّ يُعتبر عند المثقف القومي مع ذلك البديل الوحيد الذي 
"سيعود" كما يعود المهدي المنتظر، ليُرجع الأمور إلى نصابها.

يعيش المثقف القومي سياقا صعبا، فبعد أن كان مُنظرا لدولة العرب الواحدة الممتدة "من الماء إلى الماء"، أصبح معظم عمله رثاء الوقت والبكاء على أطلال أنظمة العسكر البائدة، تلك التي كان يمتدح حكامها أبطال "الممانعة" ضدّ إسرائيل والغرب، والذين كان يسكت عن كل جرائمهم ضدّ شعوبهم بحجّة أنهم الخيار الوحيد الذي لا بديل عنه، وحتى عندما قبض على صدّام حسين الذي أخرج من جُحر ضيق، ظلّ يُعتبر عند المثقف القومي مع ذلك البديل الوحيد الذي "سيعود" كما يعود المهدي المنتظر، ليُرجع الأمور إلى نصابها.

 

نشر
DR
مدة القراءة: 3'

وعندما عمّت الفوضى وانتشر السلاح وكثر أمراء الدم من الذبّاحين والسماسرة والمجرمين، وجد المثقف القومي في كل ذلك دليلا على وجاهة موقفه حتى لا يشعر بوخز الضمير، فالحاكم العسكري كان الأمل الوحيد الذي يجمع كلمة أمة العرب، وبذهابه لن يكون الأمر إلا فوضى ودمارا شاملا، وعلى هذه الشعوب البئيسة أن تختار بين حذاء العسكري الموضوع على أعناقها، وبين الفوضى العارمة والفتنة التي لا تبقي ولا تذر.

وعندما اندلعت ثورة الشعب الليبي اعتبر المثقف القومي الأمر "مؤامرة غربية"، ولم يجد حرجا في السفر إلى ليبيا في عزّ الثورة من أجل مساندة القذافي ضدّ شعبه لإفشال "المؤامرة"، وعندما جاء الدور على سوريا، نادى من على المنابر أن لا بديل عن النظام القائم لأنه الوحيد الذي يمتلك مشروعا واضحا (كذا!) وبديلا حقيقيا (كذا!)، وأن الثوار لا مشروع لهم سوى الفوضى والطائفية، ولم يجل في خاطر المثقف القومي ولو مرة واحدة أن يغير اتجاه تفكيره ليكتشف الحقيقة : أن الاستبداد في عزّ قوته وجبروته يضع الأسس الطبيعية للفوضى القادمة، بحرمان الشعب من التربية الديمقراطية والحياة الحرّة التي بها وحدها يعرف الناس كيف يحترمون بعضهم بعضا وكيف يتعايشون، لم يدرك المثقف القومي أبدا بسبب أسلوبه في التفكير الذي لا يتيح له إمكانية فهم طبيعة الشعوب ومعنى الكرامة، لم يدرك أن الاستقرار في ظلّ الاستبداد فوضى مؤجّلة، وأنّ الوحدة شتات غير معلن، لأنه حالة غير طبيعية تقتل في الناس يوميا القيم التي تجمعهم، وتحيي كل النعرات المكبوتة، والتي تظلّ أشبه بالنار تحت الرماد.

مازال أمام المثقف القومي الوقت الكافي لكي يفهم، أن دولة العرب الواحدة وهمٌ استعمل في استعباد شعوب لم تعد تقنع بالأوهام، وأن الفوضى الحالية لا بد منها لأن الاستبداد لا يرضى بالمغادرة الاختيارية ولا يترك وراءه إلى الخراب، وأن سفينة هذه البلدان الثائرة لا بد أن ترسو عند مرفإ أمين عندما يفهم الناس أن لا محيد لهم عن أن يتعايشوا مختلفين.

قد يكون هناك بعض التأخير بسبب أوهام جديدة هي أوهام اللحى المرسلة والرايات السوداء، لكن اتجاه الكرامة والحرية تظلّ هي الاتجاه العام للتاريخ.

منبر

أحمد عصيد
باحث بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية
أحمد عصيد
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال