القائمة

الرأي

رحيل من الطبقة الوسطى

رحم الله المثقف والأستاذ والمناضل إدريس بنعلي، الذي أسلم الروح لبارئها، نهاية الأسبوع الماضي، بعد رحلة حياة حافلة بالإنتاج العلمي والنقدي لنظامنا الاقتصادي. كان الرجل أستاذ اقتصاد من طينة نادرة. لم يكتف بدروس الجامعة كما يفعل الكثيرون، ولم يسجن نفسه في تقارير الخبرة للمؤسسات الدولية كما يفعل الكثيرون، ولم يبق حبيس حديث الصالونات المكيفة التي تنتقد السياسة والقرار في المملكة من وراء دخان السيجار الكوبي الفاخر، حتى إذا خرج أصحاب الصالونات إلى أشعة الشمس غيروا من خطابهم، ووضعوا الصراحة جانبا، ولبسوا أقنعة النفاق وتحدثوا لغة الخشب.

نشر
DR
مدة القراءة: 4'

إدريس بنعلي كان يتكلم كما يفكر، ويكتب من دواة قناعاته، ويبدي رأيه دون أن ينتظر وقع الكلام على السلطة. لقد فرحت قلاع الريع الاقتصادي لأنها تخلصت من صوت مزعج كان يشهِّر بها، ويفضح خططها ويعري ألاعيبها.

كان الراحل يشرّح السياسة بمبضع الاقتصاد، ويبحث عن السلطوية في حقل المال والأعمال، لا في مجال الخطب والتصريحات وصراعات السياسيين. كان يعتبر أن اقتصاد المملكة لا هو بالليبرالي ولا هو بالاشتراكي، وأن مخططات المغربة، كما سياسات الخوصصة، لم تفد اقتصاد البلاد، وأن الريع، أي عائد المال الذي لا يأتي على ظهر العمل والإنتاج وخلق القيمة المضافة، لم يعد يسكن في بيت الحاكم ونخبه، بل صارت له شهادات إقامة وسط المجتمع وثقافة القاعدة، التي صارت هي الأخرى تجري خلف الريع والامتيازات والهمزة...

كان يفسر الانقلابين العسكريين الفاشلين في بداية السبعينات في الصخيرات وعلى متن الطائرة الملكية القادمة من فرنسا بالرشوة التي كانت تخترق النظام، والتي لم يتقبلها جيل العسكريين الذين صدموا بفساد الطبقة السياسية، ومن ثم انزلقوا إلى مغامرة الانقلاب. كان يشرح سياسة المغربة والتأميم في السبعينات بأنها كانت سياسة ترمي إلى خلق «زبناء» للدولة في الحقل الاقتصادي، ورشوة نخب الاستقلال حتى لا تفكر في اقتسام القرار مع صاحب القرار، ولم تكن البتة سياسة المغربة تهدف إلى خلق بورجوازية وطنية من أجل تطوير اقتصاد المملكة.

كان بنعلي متابعا جيدا لحركة الاقتصاد وأرقامه، ولسلوك الساسة وصراعاتهم، ولهذا وجد في الحقل المدني متسعا لأخذ مسافة إزاء كل الأطراف، وممارسة النقد وتفكيك الخطابات وتحليل الوقائع.

لما أطل الربيع العربي، كان إدريس بنعلي حاضرا وسط هذا الحراك. تحول إلى اسم بارز وسط القليل من المثقفين المغاربة الذين كانوا في الموعد. أصبح يحاضر بفرنسيته الرائعة وأسلوب تواصله البيداغوجي مع الشباب في المدن والقرى والمناطق البعيدة. وعندما انتهى الحراك المغربي إلى ما انتهى إليه، قال: «إن حركة 20 فبراير لم تنجح في المغرب لسببين؛ أولا: ضعف نظام التربية والتكوين وسط المجتمع. ثانيا: ضعف الطبقة الوسطى في المغرب».

كان الراحل يسخر من دعاية الحكومات المتعاقبة التي تتحدث عن الإقلاع الاقتصادي في المغرب، ومخططات النمو الوردية، وبرامج التنمية المستدامة. كان يقول ويكرر أن عافية الاقتصاد في تناول أربعة أدوية ضرورية للحياة وهي:

-1 نظام للحكامة والتدبير شفاف وديمقراطي وخال من الفساد والرشوة والريع. نظام يراقبه برلمان ومؤسسات ديمقراطية مبنية على نسبة مرتفعة من المشاركة وقواعد لعب واضحة. 

-2 نظام للتعليم بأهداف محددة، وفي مقدمتها: إنتاج القيمة المضافة. فمدرسة أو جامعة لا تنتج عقولا مبدعة وسواعد منتجة وخبرات لها قيمة مضافة، لن تخدم الاقتصاد، بل ستزيد عبء الاقتصاد غير المنتج.

-3 نسبة نمو مرتفعة في حدود 7% على مدار عشر سنوات على الأقل، حتى تتمكن البلاد من استعادة عافيتها، والانخراط في دورة الإنتاج العالمي بأولويات مضبوطة وقدرة على التقييم والمحاسبة والمراجعة.


-4 سياسات عمومية توسع من حجم الطبقة الوسطى حتى تصير هي قاعدة الهرم الاجتماعي، فبدون طبقة وسطى تبادر وتنتج وتستهلك وتطور آليات الاقتصاد في البلاد، لن نصل إلى أي إقلاع اقتصادي. وعندما نقول طبقة وسطى فهذا معناه إطار ديمقراطي ومؤسساتي يحتضن طموحات هذه الطبقة، ويتطور مع فكرها واختياراتها الفردية والجماعية. 

إنها من أبرز دروس الراحل بنعلي، وغيرها كثير. إنه مثال المثقف الذي يقول الحقيقة للسلطة، لا ذلك المثقف الذي يلعب بالحقيقة من أجل عيون السلطة. رحمك الله يا إدريس بنعلي

منبر

توفيق بوعشرين
صحافي
توفيق بوعشرين
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال