القائمة

الرأي

"دفــتــر الـعــابـر" أو الحـنين المـؤقـت

ضروري أن نتأمل عنونة هذه الملحمة الشعرية، 203 صفحة، بطلها شاعر متميز، صاحب  خيال خصب، اهتمامات وأفكار متعددة، متجددة، هذا العنوان "البرئ"، في الوهلة الأولى، يحمل في طيه أكثر من طرح، مدلول ودلالة، لماذا استعمال أداة التعريف وليس الـتنكير؟ 

نشر
DR
مدة القراءة: 6'

هل هذا المسلسل أوالعاصفة الشعرية مرتبط بذات الشاعر أو خارج عن إرادته إلى درجة الهذيان والسكر الشعري الـعـلني؟ ما هي كيفية عملية العبور وأدواتها؟ من هذه الضفة إلى أخرى، من الحلم إلى الواقع، من الزمان إلى المكان، من الحياة إلى الموت، من الأرض إلى السماء، من المتعة إلى الإشمئزاز، من الظلمات إلى النور، من البكاء إلى الغبطة و"الــدّرْديــگــة"، من السكر إلى الصحو وسلامة التقدير، من عويل و"تــْــبوحيـط" الكلاب إلى هدنة العزلة والغربة؟ بالفعل، هذا العنوان ليعكس صورة الشاعر للحياة المتشظية بين متضادات الوجدان التائه بين الحب، الحقد وكراهية "الكلاب" التي وقف عليها الشاعر بإصرار منذ البداية (ص 17)، بالنسبة للآنا الشعري "الكلاب" هي التي تستفز الإنسان، وتريد أن تنقض عليه كلما انهارت قواه ولم يحصن نفسه بالمناعة الازمة، لأن "الكلاب" تفننت منذ القدم في الدفاع بشراسة عن مصالحها ومقالعها، فإن كنت ضعيفا لدفعتك إلى الهجرة أو المنفى، منفى خارجي أو داخلي. يشكل هذا اللفظ موسيقى بنبرة وإيقاع خاص داخل القصيدة الشعرية، المستمدة من عملية التكرار والإلحال، ويمكن تنعيتها بموسيقى الحشو، لا يدخل هنا التكرار خانة عدم القوة أو عدم رقة الحس في التعبير أو سفاف المزعم، ولكن يشكل محسنات لفظية ضرورية قصد الإختلاف الجلي بين "الأسلوب الشعري" و"شعرية الأسلوب"، والهدف منه هو التأثير المباشر، التشويق، خلخلة ومداعبة  المشاعر والإزعاج الإجابي.  

  إن عنونة هذه التحفة و"الرواية الشعرية"، ب "دفتر العابر" لـتحيـلـنا على النبش في "السيرة الذاتية" للشاعر التي يستعرضها بسخاء على أنظارنا، وكمية المدن والدول شهيدة على هذا العزم: باريس، ورزازات، بروكسيل، بازل، القدس، الأندلس، غرناطة، برلين، فرانكفورت، أصيلة، قرطبة، لندن،  كوبنهاكن، ستوكهولم، كوتنبورك، ميونيخ، شتارنبرك، إشبيلية، مدريد، المونيكار، كازابلانكا، شيـكاكو، أوكلاهوما، كولومبيا، سياتل، أمستيردام، نيس، مرسيليا، سان فرانسيسكو، فالدكيرش، إسلاندا، أوهايو، مالمو إلخ، فالشاعر يكتشف في أول مرة أنه بالفعل أندلسي البشرة والثقافة، عن طريق التباري العفوي والإصطدام بثقافة وحضارة الآخر، وهذا الإحساس لن يفارقه حتى في أوقات المتعة والترف، حيث يشكل مصطلح "الأندلس" و"الأندلسي" مرجعا هوياتيا يعود باستمرار قصد طمأنة الذات المتصدعة والخائفة خوفا شديدا من العزلة، الإتلاف، الضياع والحرمان ( ص 36،  37، 41 ، 47، 104، 106، 108، 111، 112، 113 إلخ)، فهذه الألفاظ المتكررة لا يمكن اعتبارها قطع غيار أو أدوات ديكور واهية، بالعكس إنها أساسية، حيث تشكل البوصلة والوعاء لشاعرية ياسين عدنان، كما تـرمز إلى حضارته وثقافته عبر تجاذب وتقاطب ثـنايا وتجليات حضارة وثقافة الآخر، يعني الإكتشاف والمكاشفة عن طريق التعارض حتى بلغت أحيانا درجة التأليه والتقديس وطرقت باب الرحمان: "ثم رحلنا إلى جنة النار"، ص 13، "يا جوّاب الآفاق"، ص 203.  

بالنسبة للشاعر الحياة ليست مساحة أو رقعة متسعة الأطراف والأجناس قصد السُـخرة، الكد، الجهد والترحال فقط، ولكن كذلك فضاء عشق، حب وجمال كما جاء في الإهداء: "إلى طه، اخترت الهجرة وزيـّـن لي السفر"، لأن القصيدة بالفعل بمثابة الهدية التي تكون دوما في حاجة إلى من يفك ربطتها، عزلتها ولغزها، منذ الكلمات الأولى للقصيدة يهيئـنا الشاعر إلى الغوص والتماهي مع سلطنة الحلم: "ثم رحلنا إلى نار الجنة/كنت أحملُ"، ص 13، أو إذا صح التعبير: "أحلم"؟ فالآنا الشعري يحلق بين الأرض والسماء اللذان يشكلان في مجمل القصيدة تضاد شديد العصيان، فالسماء رغم تداول صيغة المؤنث أكثر من المذكر، فهذا لا يدل إلا على جبروت، فحولة ولا نهاية الكون، أما الأرض، رحم الإنسانية، فما عليها إلا أن تستقبل المطر، في المقابل تقوم السماء بترميز الانهائي، الأبدي، الروحي والإلهي، أما الأرض فما هي تأوي إلا الدنيوي، النهائي، الإنسان "العابر".

في ما يخص الجانب الفني فالشاعر سخر النثر إلى جانب الشعر قصد كسر الروتين المحتمل وإعطاء الشعر دينامية جديدة بصيغة الـمحكي الذي يتلاءم بسلاسة مع "دفتر" العابر، مع السيرة الذاتية الشعرية، صيغة الحكي خارجة المؤلوف وغير محددة المعالم بغية خلق فضاءات جديدة في حلة أنيقة قابلة للتأويل، والسبح في عالم الأحداث اليومية والموروث بغاية استنطاق المعاني بغية زحزحة الحواس وسن الرموز، الإستعارات، التجسيدات والتشبيهات والمزج المتعمد بين وضوحية النثر وضبابية الشعر: "كنت تضرب في جسد التيه" (ص 15)، "حينما يجيئ البكاء إليك" (ص 15)، "الأشجار التي حلقت" (ص 16)، "كلاب ترطن بفصحى مكسرة" (ص 18)، "كلاب مقدسة" (ص 19)، "السماء تخفف من نجومها" (ص 25)، "وكان الراين يتقلب في سريره الهامد" (ص 35)، "الليل المصلوب على أعجاز الريح" (ص 36)، "تحت قميصك المكوي" (ص 42)، "كنا إذ تترجل السماوات ببابنا/نهرع إلى حواسنا البتارة" (ص 49)، "هنا السماء واقفة تموت" (ص 76)، "وأشرعة الزوارق/تحرض الريح/ على الكثبان" (ص 95)، "الطبول تقرع الآن/وأنا أتهاطل/كمطر مجنون" (ص 111) إلخ، جل هذه الرموز الشعرية تأثث الفضاءات "العدنانية" بحس راقي ولغة مشوقة، حيث تفتح الشهية عن آخرها لكل ناقد كان معجبا بالحفريات والنبش في اللغة وتدارك المعاني، كما تدفعه للمزيد من التعمق والقراءة حتى لا تضيع أي وصفة أو صورة، يمكن اعتبار المزاوجة بين السرد والشعر تجربة ناجحة يمكن الإقتداء بها في الكتابات الشعرية القادمة، لأن السيرة الذاتية الشعرية  ("دفــتــر") تحتم على الشاعر استعمال تقنية السرد حتى يتمكن من إهامنا أن خطابه صادق، حقيقي، قويم وحواسه عفوية وتلقائية، لذا قابلة للتبني، غير مشوبة ولا زائفة، في هذه الحالة يخلق الشاعر نوعا من التوتر الإجابي بين النثر والشعر، مع العلم أن الشعر يدخل عالم السحريات والروائع والسرد عالم الحكي والمعايش اليومي، والمزج الإبداعي بين الواقع والمخيال المحسوس يعطي إضافة نوعية وعمق سحيق لهذه القصيدة الناجحة، السرد المتقن يشكل هنا اللحمة الضرورية التي تربطنا وتحيلنا على روائع الشعر الراقي بدون أن ترمي بنا في أحضان تخمة الإسفاف أو سخافة الألفاظ. 

تكمن جاذبية وشعرية هذه القصيدة الرومانسية في التوتر الدائم بين الحياة والموت، وما يجوب حولهما من تجارب، مشاعر ومخاض، حيث يمثل هذا الثنائي المتناقض (؟) التجربتان الأساسيتان في حياة الإنسان، ولهذا السبب بالضبط نقرأ الشعر ونستمتع به، لأنه يضع يده على موطن الضعف، على أحاسيسنا، أوهامنا وهواجسنا، ولكن يشكل في نفس الوقت منبع السلوى، العزى و الترفيه، كالموت، تزعجنا، ترهبنا ولكن في نفس الوقت تدفعنا  إلى تذوق طعم الحياة على وعي كامل منا، بحماسة وشراهة أحيانا، كما أشار الشاعر أكثر من مرة إلى هذه الظاهرة، عبر سفرياته، تطلعاته ومجالسته لكل من "بيغي"، "علياء"، "إيفيلين" و "آورورا" إلخ، تتجلى رومانسية هذه القصيدة كذلك في استعمال الوسائل الفنية كالتشخيص، التجسيد والتعبيرات غير المحدودة، أما المضمون فالحنين والتشوق إلى الحياة لا غموض فيه، حتى طرق باب الألوهية، أنظر إلى الآية القرآنية من "سورة الرحمان" التي تتصدر هذه القصيدة، وهذه التوجعات والإنفعالات الذاتية تعطينا نبذة عن تصور الشاعر للحياة حيث يعتبرها ب "عابرة" فقط ولا يمكن لنا أن نتخذها كمثال أعلى، الموت اليقين هو المنفذ وهو وحده الوحيد الذي يضمن لنا الخلاص من الآلام، العزلة، الغربة، تشويش الكلاب الحقيقية والمفترضة، البكاء، كما يؤمن طريق الرجوع إلى  ما وراء "دفتر العابر"، إلى ما وراء الطبيعة.  

كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال