القائمة

الرأي

الحرية، القيمة الأكثر ديمومة في التاريخ

الحرية، القيمة الأكثر ديمومة في التاريخ في كل المجتمعات ومنذ فجر التاريخ، ثمة فريقان من الناس أبانت عنهما الصراعات المتلاحقة، فريق يناضل من أجل الحرية، وآخر يعمل على طمسها، والفرق الواضح بينهما أن الأول يسعى إلى الحرية كقيمة إنسانية مفتقدة أو مطلوبة من طرف الجميع، بينما يمارس الثاني حريته في الحجر على الآخرين وقهرهم، حيث يرى في ذلك الصيغة الوحيدة لتحقيق ذاته وإثبات وجوده.

نشر
DR
مدة القراءة: 3'

يرى الفريق الأول بأن حريته جزء من كلّ، أي من حريات الآخرين، وأنه لن يستحق الحرية وحده دون الغير، لأنه لن ينعم بها ولن يشعر بقيمتها الحقيقية بدون حرية الآخرين الذين قد يكونون مختلفين عنه. هكذا يصبح تماسك الجماعة رهينا بحرية أعضائها.

بينما يرى الفريق الثاني أن حرية الآخرين خطر على حريته، وأنه لن يشعر بالحرية أبدا إلا على حساب الغير، الذي يمثل في اختلافه "استفزازا" لمشاعره. هكذا يصبح تماسك الجماعة رهينا بوصاية البعض على البعض، وبعنف الغلبة، وجبروت السلطة.

وفي المسار الطويل للنضال من أجل الحرية، تراكمت تجارب الإنسان وتزايدت معارفه بطبيعته وبخصائص الجماعة البشرية، ولم تكن ثمة فترة من فترات الحضارة لم تعرف الصّراع من أجل إثبات أن جوهر الإنسان هو الحرية، وأنّ القوانين والتنظيمات والتقاليد والأعراف قد وجدت لحماية ماهيته تلك قبل أن تنقلب إلى موانع وعوائق أمام إثبات الفرد لذاته وتحقيقه لجوهره بوصفه كائنا حرّا.

وقد انتبه المفكرون والفلاسفة منذ زمن بعيد إلى التعارض الموجود بين تطلع الإنسان إلى الحرية وإثبات الذات، وبين وجود ضوابط الجماعة التي تهدف إلى ترويضه على حياة الجماعة المنظمة، واستطاع الفكر الإنساني أن يهتدي عبر الحقب والأزمنة إلى الصيغة التي تلائم بين التطلع إلى الحرية وإلزامية القانون، وتعد المرجعية الكونية لحقوق الإنسان أسمى وأدق ما بلغه الفكر الإنساني في هذا الباب، حيث جعلت الحرية مرادفة لماهية الإنسان وقيمته، وأخرجتها من إطار وصاية الجماعة والتقاليد وجعلت منها أساس الإبداع والإنتاج والبناء، وجعلت منها حرية مدنية لا تحدّها إلا حرية الآخرين وحقوقهم وليست عقائدهم أو تقاليدهم أو ألوانهم أو أعراقهم.

هكذا صرنا أحرارا ليس لأن أحدا منّ علينا بالحرية، بل لأن تلك ماهيتنا كبشر وجوهر وجودنا، ونحن في حريتنا ملزمون باحترام حرية غيرنا وكرامته، لكننا لسنا ملزمين بالتخلي عن حريتنا لأن طرفا معينا ـ بسبب حرصه على صيانة مصالحه ـ يريد أن يستأثر بالحرية لنفسه على حساب غيره، حتى ولو استعمل في ذلك كل أساليب الإكراه والتهديد والعنف الرمزي والمادي، لأنه كلما أمعن في ذلك ظهر بُعده عن الحضارة، وتراجعه عن مكتسبات الإنسان السامية.

لا شك أن الناس سيظلون مختلفين في كل شيء، كما سيجدون الكثير من عناصر المشترك العام التي توحّد بينهم وسط الاختلافات، والحكمة تقتضي أن نعتبر اختلافاتنا عوامل إيجابية لتبادل الأفكار والخبرات والتجارب، وأن نمرّ عبر الحوار الإنساني العميق إلى تحديد المشترك العام الوطني.

وإذا كان الحوار والتبادل وروح الاختلاف وحبّ المعرفة والاكتشاف من علامات الازدهار الحضاري، فإن أسوأ ما يمكن أن يقع لبلد ما هو أن تظهر فيه النزعات الإقصائية الهدامة ، فتحول مناخ الحوار والتبادل الفكري والاختلاف الخلاق إلى فضاء للتحريض والتهديد وإذكاء النزعات الإجرامية وإشاعة الكراهية، وهي نزعات لا تزدهر إلا في مناخ الانحطاط، ولا تنتعش إلا في فضاء الاستبداد والعبودية.

منبر

أحمد عصيد
باحث بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية
أحمد عصيد
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال