القائمة

الرأي

انتبهوا.. القادري يتكلم

حكايات الكولونيل عبد الله القادري الخارجة من مذكراته بقدر ما هي مسلية وفيها الكثير من العفوية والجرأة من رجل على حافة الغروب، فهي مفيدة لمزيد من فهم ميكانيزمات اشتغال الدولة في بلادنا، وعلاقة السلطة بالمال والأحزاب والانتخابات، وتداخل عناصر كلها قابلة للا

نشر
DR
مدة القراءة: 3'

يبدو أن عبد الله القادري، العسكري الذي نجى بأعجوبة من التورط في حادثة الانقلاب العسكري وأحد مؤسسي حزبي الأحرار ثم الوطني الديمقراطي، اختار أن يعلن نهاية مشواره السياسي على ظهر الصفحة الأخيرة من جريدة «المساء» التي تنشر مذكراته تباعا كل يوم، وفيها يكشف القادري بلا تحفظ تقريبا روايته لما عاشه في المغرب، على مدار 40 سنة، كعسكري ثم كسياسي وكمسير شركات كبيرة في اسمه وفي اسم آخرين. 

سأقتبس مشهدا واحدا من هذه المذكرات للتعليق عليه، وربطه بالحاضر الذي مازال مشدودا إلى الماضي في الكثير من تفاصيله. إنه زواج المصلحة بين السلطة والمال.. مبرراته ودواعيه. 

  يذكر القادري، الذي كان مقربا جداً من الجنرال أحمد الدليمي، أن هذا الأخير كتب باسمه ودون علمه 50 في المائة من أسهم شركة «أديداس»، وذهب بنفسه إلى الخارج للتفاوض مع أصحابها، ولما نضجت الصفقة أعطاهم اسم من سيحمل أسهمه فيها، وذلك حتى لا يظهر الجنرال في الصورة لأن موقعه العسكري والأمني حساس. ويقول القادري إن رقم معاملات هذه الشركة لوحدها في الثمانينات كان في حدود 12 مليار سنتيم، وهو رقم كبير 30 سنة قبل اليوم. طيب، لماذا يلجأ جنرال كبير إلى الدخول إلى عالم «البزنس» باسم مستعار وهو مازال في موقعه الحساس؟ الجواب على لسان القادري منسوبا إلى الدليمي: «إن هذا رزق الأولاد، ونحن لا نعرف هل ستشرق الشمس علينا أم لا. الذي يشتغل مع الحسن الثاني لا يعرف مصيره. مرة يكون راضيا عنك ومرة غاضبا. وإذا غضب مابقا والو». هو، إذن، الخوف من المصير المجهول، والخوف على العائلة بعد المنصب رغم أن صاحبه موجود في قمة هرم السلطة، والحل هو جمع أكبر قدر من المال في السلطة قبل الخروج منها... فإذا لم يحتفظ بمنصبه أو برأسه فوق جسده، فعلى الأقل يضمن مستقبل أبنائه. إنها لعبة خطيرة وجب أن نتأملها من زاوية أخرى غير الحكم المألوف على علاقة السلطة بالمال...

 المشكلة لا تنحصر هنا.. المشكلة تصير أن السياسي ورجل السلطة لا يتحرك في بركة «البزنس» بمنطق السوق المبني على المنافسة الحرة والربح والخسارة واحترام الحريات النقابية. لنستمع مرة أخرى إلى القادري الذي كان يسير شركة الدليمي لمدة عشر سنوات. يقول: «لما تسلمت الشركة وجدت كثرة الإضرابات العمالية فيها، فاتصلت بقادة الاتحاد المغربي للشغل، وفي مقدمتهم عبد الرزاق، واشتكيت له الأمر، فوعد خيرا». القادري قال أيضاً إنه «تدخل لدى قيادة الاتحاد المغربي للشغل لثنيها عن العمل النقابي في شركة الجنرال، وذكر أن المبرر كان آنذاك أن الشركة في ملك عروبي مثل السي أحمد الدليمي، ولا يعقل للنقابيين أن ينظموا إضرابات في شركات العروبية. وقد تدخل المحجوب بنصديق شخصيا وأوقف الإضرابات في الشركة». انتهى كلام القادري.

 هنا نحن أمام تداخل عجيب بين «البزنس» والسلطة والنقابية ومنطق «العروبية والمدنيين». المحجوب بنصديق لم يوقف الإضرابات لأن الشركة في ملك عروبي، بل لأنها في ملك جنرال كان الكثيرون في المغرب يخافونه، وترتعد أطرافهم من سماع صوته، والقادري يعرف هذا الأمر، لهذا يذكر القادة النقابيين بالاسم الكبير الذي يملك الشركة...

 في عدد من الدول يملك السياسيون والعسكريون ثروات صغيرة أو كبيرة، تراكمت في أيديهم نتيجة الإرث أو العمل أو التجارة قبل الوصول إلى المنصب. المنصب الكبير في الدولة لا يغني صاحبه كقاعدة، بالعكس تتضرر ثروات المسؤولين الكبار وقت مرورهم في المراكز ومواقع تدبير الشأن العام، لكنهم يحرصون، في الغالب، على بقاء حدود التماس واضحة بين مناصبهم وثرواتهم، بل يحتاطون كثيرا من الأمر لأنه خطير وحساس وقد يكلفهم الكثير من مالهم ومن مناصبهم.

 «المال أساس كل شر»، هكذا يقول الإنجيل، لكن يبدو أن خلط المال بالسلطة أساس الكثير الكثير من الشر.

منبر

توفيق بوعشرين
صحافي
توفيق بوعشرين
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال