القائمة

الرأي

مرتكزات الاستقرار بالمغرب وما يهددها

الذين فشلوا في تفجير الحكومة من الداخل، يسعون اليوم لنقل المعركة معها إلى الشارع،يراهنون على الحمير بعد أن لفظتهم الجماهير، وهو رهان فاشل لأن المغاربة واعون بالجهة التي تحترمهم وتسعى جاهدة للالتصاق بهمومهم، ورفع الحيف عن الفئات المسحوقة منهم، وتقف في وجوه من اتخذوا السياسة مهنة ومطية للغنى الفاحش على حساب مصالح الشعب.

نشر
DR
مدة القراءة: 9'

الذين يراهنون على الشارع اليوم، لا يدركون نعمة الاستقرار الذي ينعم به المغاربة، أو لا يهمهم ذلك ما داموا هم الخاسرين من الاستقرار، لا يدركون نعمة الاستقرار وهم يرون الفوضى المدمّرة التي تعرفها المنطقة، فليبيا الغنية تخسر يوميا 600 مليون يورو بسبب إضراب العمّال في شركات ومعامل تكرير النفط عالي الجودة، والجزائر تعيش أزمة سياسية خانقة يتمّ تصريفها عبر صراعات خفية بين أجنحة الجنرالات (وهم الحكام الفعليون) والمدنيين بقيادة الرئيس بوتفليقة، وأموال الغاز والبترول مكدسة في الأبناك الخارجية، لا يستفيد منها الشعب، وتونس ما زالت تتأرجح بين خيارات عدة لحل أزمتها السياسية، ومصر أكبر دولة عربية، فقدت البوصلة بعد الانقلاب العسكري، ودخلت في دوامة العنف والعنف المضاد، وهي تخسر ملايين الدولارات يوميا بسبب الخروج عن الشرعية وعودة الدولة العميقة إلى واجهة الأحداث، أما سوريا والعراق فآلة الحرب الأهلية والاقتتال الطائفي مشتغلة، تأتي على الأخضر واليابس ولا حل يبدو في الأفق.

الذين يراهنون على الشارع اليوم لا يدركون أنهم يحصدون فشلهم في تدبير مرحلة ما بعد الاستقلال، لا يدركون أن المغاربة يتميّزون بذكاء خاص يجعلهم يميزون بين الصادق والكاذب، ولم تعد تستهويهم دغدغة العواطف ولا الخطاب المنافق.

الذين يراهنون على الشارع يجهلون مرتكزات الاستقرار في هذا البلد، ولا بأس أن نذكرهم بأهمها وهي سبعة:

ـ المرتكز الأول: حفاظ المغاربة على شكل الدولة الإسلامي منذ 12 قرنا رغم تعاقب الدول على حكم هذا البلد، ولم تحصل أي قطيعة مع هذا الشكل بعد الاستعمار الحديث كما حصل في معظم الدول الأخرى، بل حافظ المغاربة على نظام "إمارة المومنين"، وتمّت مأسسته على عهد الملكين الحسن الثاني ومحمد السادس، وهذا النظام بحاجة اليوم إلى تحديث ليواكب التطور السريع الذي يعرفه المجتمع، فمؤسسة العلماء تسير بنظام عتيق وعقلية إدارية عتيقة، تحتاج لمن ينفض عنها الغبار، تحتاج إلى دمقرطة فعلية، شأنها شأن سائر مؤسسات الدولة، أما الجمود والركون إلى زاوية من زوايا الدولة العميقة، فهو ما يهدد هذه المؤسسة العتيقة ذات الأهمية البالغة.

ـ المرتكز الثاني: تحديث نظام الدولة المغربية السياسي منذ الاستقلال، من خلال إرساء نظام الملكية الدستورية والتعددية الحزبية وتبني النظام الديمقراطي بمؤسساته المتعارف عليها دوليا، ورفض نظام الحزب الوحيد أو حكم العسكر أو حكم العائلة أو العشيرة أو القبيلة، وهي النظم المعمول بها في العديد من الدول العربية اليوم التي لم تتحمّل رجّة الربيع الديمقراطي،فسقطت عروش ودمّرت مجتمعات وتفككت دول، وأخرى مهددة لا يقيها العاصفة إلا الثراء الناجم عن مصادر طبيعية، في حين وجد هذا الربيع في بلدنا أجهزة الاستقبال مشتغلة أو قابلة للاشتغال، فكان تأثيره محدودا وإيجابيا؛ لكن ما يهدد هذا المرتكز اليوم هو عملية إفراغ الديمقراطية الناشئة من أي مضمون، وإضعاف الأحزاب السياسية والتأثير عليها والتدخل في شؤونها الداخلية، وتقوية الأحزاب الإدارية، وإفشال الحكومات المنتخبة أو تزوير العملية الانتخابية.

ـ المرتكز الثالث: إجماع المغاربة أحزابا وجماعات وإثنيات على الإسلام باعتباره مرجعية دينية وثقافية، والملكية باعتبارها مرجعية للاحتكام، واللسان العربي والأمازيغي باعتبارهما أداة للتواصل والتثاقف والانفتاح على الآخر؛ لكن الخلاف اليوم حاصل حول مرجعية الإسلام السياسية، فالعلمانيون يرون أن الإسلام دين سماوي توحيدي يهتم بإصلاح الفرد وضبط علاقته بربه، شأنه في ذلك شأن سائر الأديان السماوية، ولا يجوز إقحامه في قضايا الشأن العام التي هي مجال للاجتهاد العقلي والصراع السياسي بعيدا عن التوجيه الديني، في حين يصر الإسلاميون على أن الإسلام مرجع سياسي في الكليات وبعض الجزئيات، ونصوصه في الحكم والعدل والشورى والحرب والسلم والمال وقضايا الأسرة والقوانين الجنائية والأخلاق غيرها قطعية لا تقبل المزايدة، ولا يمكن إهمالها أو تعطيلها إلا بتعطيل جزء كبير منه، وما قامت هذه الحركات الإسلامية إلا لزرع الحياة في هذا الجزء المقصي من الدين منذ وطئت أقدام المستعمر أرضه.

وهذه الفجوة بين الإسلاميين والعلمانيين تتسع يوما بعد يوم، وهي في حاجة لمن يردمها أو يقرّب وجهات النظر بين الطرفين، لئلا تتطور إلى معارك واصطفافات تضعف المجتمع وتهدد الأمن والسلم أو تفضي إلى تدخل خارجي.

ـ المرتكز الرابع: التسامح والانفتاح على الآخر المختلف دينيا ولغويا وحضاريا، والتفاعل معه باعتبار المغرب بلد التواصل بين القارّات والحضارات، فمن خلال موقعه الجغرافي وعمقه التاريخي وبنيته السوسيوثقافية، استطاع المغرب أن يحافظ على وحدته في تنوعه، وفي جيناته امتزجت حضارة الشرق بالغرب عبر مسيرة طويلة من تعاقب الدول والحضارات على حكمه وعمرانه.

لكن ما يهدد هذا التنوع القائم على ساق الانفتاح، استغلال جهات مشبوهة لتسامح المغاربة وانفتاحهم، من أجل زرع أقليات دينية أو مذهبية، ثم الانتقال إلى المطالبة بحقها في التعبير والتنظيم السياسي، وبذلك تصبح بوابة للتدخل الخارجي، أما التعبير الديني المنفصل عن المطالبة بالحقوق السياسية فهو لا يضر الدولة في شيء، ولا يضيق به المغاربة منذ تعايشوا مع اليهود وغيرهم من ذوي الديانات الأخرى، فالمغرب بلد عبور شمال/جنوب، وجنوب/شمال، والعالم يشهد هجرات جماعية بسبب المجاعات والحروب والأزمات الاقتصادية وبسبب تطور شبكات التهريب والهجرة، وسهولة المواصلات التي عرفت تطورا هائلا في القرنين الأخيرين.

كذلك هذا التنوع والتعدد والانفتاح، وهو مصدر استقرار بكل تأكيد، يتمّ استغلاله من جهات متطرفة ومتعصبة لمد جسور التواصل مع جهات صهيونية معادية لثقافة الأمّة وهويتها ووحدتها، بدعوى حق اليهود الأمازيغ في زيارة بلدهم الأصلي، بعد أن لطخوا أيديهم بالدماء الفلسطينية وطردوا سكان تلك البلاد واستوطنوا أرضهم وديارهم بغير وجه حق، فهؤلاء مستوطنون مجرمون، أما إن تابوا وعادوا إلى بلدهم المغرب بنية الاستقرار، فهم إخواننا وجيراننا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، لا نضيق بهم ولا نحاربهم، بل نشجعهم على العودة إلى أٍرض أجدادهم، والابتعاد عن بؤر التوتر وحرمان شعب من أرضه و حقوقه، فلا ينتظرهم هناك إلا الحروب والدمار، ولن تنفعهم أمريكا ولا الغرب ولا أسلحة الدمار الشامل التي كدسوها، فالمنطقة تغلي، وهي على فوهة بركان، وهم أول من سيؤدي ثمن الفتن التي أشعلوها.

ـ المرتكز الخامس: اعتماد المذهب المالكي في الفقه، وهو أوسع المذاهب في تقدير المصالح والمقاصد، وأكثرها مرونة وسعة، وأعظمها جمعا بين النص والتعليل، بشهادة أئمّة كبار من خارج المذهب، على رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي صنف رسالة طويلة في الإشادة بمذهب مالك، رغم أنه حنبلي المذهب، وهي موجودة في مجموع الفتاوى.

وممّا يزيد هذا المرتكز ترسيخا للاستقرار، انتشاره في المنطقة المغاربية وجنوب الصحراء، والجماعات المسلحة التي انتشرت في هذه المنطقة اعتنقت مذاهب أخرى فيها تشدد، فضلا عن أن هذه الجماعات صنعت بعض أجنحتها تحت أعين المخابرات الجزائرية (جناح المختار بلمختار نموذجا).

وممّا يهدد هذا الاختيار المذهبي للمغاربة، قوة المد الشيعي بعد انتصار الثورة الإيرانية وتأسيس دولة الشيعة على أنقاض الدولة البهلوية، فعملت إيران على نشر المذهب الشيعي في إفريقيا، وهو تحدي سياسي بالأساس، فالشيعة المغاربة لهم أجندة سياسية مرتبطة بإيران وحزب الله، ولا أدل على ذلك من خرقهم لإجماع المغاربة في قضية النظام السوري المجرم، حيث وقفوا إلى جانبه اصطفافا مع الدولة التي ترعاهم، ومعلوم أن المذهب الشيعي يصنف السياسة في الأصول لا في الفروع خلافا لما عليه أغلب المذاهب السنية.

ـ المرتكز السادس: اعتدال الحركة الإسلامية بالمغرب بكل فصائلها، ورفضها للعنف منهجا في التغيير، وهو ما سهّل مهمّة الجهاز الأمني في محاصرة الإرهاب، لأن هذا الأخير لم يجد التربة المناسبة لنموّه، وبقي غريبا على المجتمع المغربي، والحقيقة أن تعامل النظام الملكي مع الحركة الإسلامية جعلها تتخذ منه موقفا إيجابيا، بينما الدول التي سلكت منهج الاستئصال للحركة الإسلامية أو الانقلاب على نتائج الديمقراطية إذا أفرزت الفاعل الإسلامي، تعيش اليوم عدة أزمات على إيقاع الاضطرابات والانفجارات والإرهاب وانهيار منظومة الاقتصاد والاحتراب الداخلي.

لقد لعبت الحركة الإسلامية بالمغرب دورا بارزا في محاصرة التطرف والتكفير والتفجير، من خلال تأطيرها للشباب ذوي النزوع الديني، ومن خلال المراجعات المبكرة التي قامت بها تجاه النظام والمجتمع، وإن ممّا يهدد الاستقرار تعمّد بعض الجهات خلط الأوراق، واتهام الإسلاميين المعتدلين بالمسؤولية المعنوية عن الإرهاب أو حشرها مع تنظيمات دولية، كالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وهو تنظيم ينبذ العنف، لكن لا تربطه بأكبر التنظيمات الإسلامية بالمغرب أي علاقة تنظيمية، لا قديما ولا حديثا، كما يزعم شباط الأمين العام لحزب الاستقلال، وكما يزعم الاستئصاليون، وكل ذلك من أجل تصفية خصم سياسي عنيد.

ـ المرتكز السابع: إبعاد المؤسسة العسكرية عن العمل السياسي، فمنذ تورط ضباط في انقلابات عسكرية ضد الملك الحسن الثاني مطلع السبعينات بقيادة الجنرالين أوفقير والمذبوح، عمل الملك على ضبط وتحديث هذه المؤسسة، وإعادتها إلى حجمها الطبيعي، وإبعادها تدريجيا عن السياسة كما هو الشأن في الدول المتقدمة؛ بينما دول المنطقة تئنّ تحت حكم العسكر، فمنذ خمسة أو ستة عقود والجنرالات يحكمون معظم الدول العربية، باستثناء الملكيات، وبعد مجيء الربيع العربي سقط أربعة ضباط كبار حكموا دولهم بالحديد والنار، فطبيعة التربية العسكرية القائمة على الانضباط وطاعة الأوامر وحسم الأمور بالقوة، تجعل الأنظمة العسكرية والشبه عسكرية معادية للنظام الديمقراطي القائم على توسيع قاعدة الاستشارة وإشراك أوسع فئات المجتمع في اتخاذ القرار السياسي عبر مؤسسات منتخبة.

لكن المؤسسة العسكرية بالمغرب لا زال بعض القائمين عليها يستفيدون من اقتصاد الريع، ولا زالت ميزانيتها لا تناقش في قبة البرلمان، وتغيب الشفافية عن العديد من الصفقات، خصوصا تلك المتعلقة بملف تنمية الصحراء المغربية، كما جاء مفصلا في تقرير السيد شكيب بنموسى وهو على رأس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وهو التقرير الذي كشف بالأرقام الملايير المهدورة باسم خدمة القضية الوطنية الأولى.

وهذا النزيف في ميزانية الدولة، إذا لم يتم تداركه بالصرامة اللازمة، فإنه مهدد للاستقرار، لأنه سيفشل كل المساعي التي تقوم بها أية حكومة، مهما بلغ حرصها واجتهادها في مقاربة الأزمة الحالية.

فهذه سبعة مرتكزات، عليها مدار الاستقرار بهذا البلد الآمن، وكل مرتكز منها يقابله ما يهدده، وإذا كان حظ المغاربة اليوم ممّا يجري بجوارهم من فتن ودمار، أن تلفحهم نار بعض الأسعار المرتفعة بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، فليقابلوه بالصبر ودعم حكومة لن تخيّب ظنهم بإذن الله.

منبر

د. أحمد الشقيري الديني
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال