القائمة

الرأي

كيف نأسس لثورة حقيقية دون إهراق دم أو تكفير

ما نشاهده اليوم من معاناة لإخواننا بليبيا وبالشرق الأوسط يحثنا على التفكير الرصين وعلى التمعن لإيجاد ثم اقتراح سبل بديلة وسلمية تجنبا لويلات الصدامات المسلحة من أجل تغيير السلطة دون تحقيق أي قفزة نوعية.

نشر
DR
مدة القراءة: 5'

أعتقد أن المغرب أقدم على خطوة جريئة وأساسية عندما اعترف رسميا بالآمازيغية. خطوة حكيمة تؤدي بالمغاربة إلى تقدير واحترام أفضل للإختلاف وللتعددية. أظن اليوم أنه بإمكان الشعب العربــأمازيغي بالمغرب أن يؤسس لثورة حقيقية بعيدا عن التقاتل الدموي وعن الإنقلابات العسكرية إذا ما ثابر على نفس النهج وبنفس اللباقة. فالقوى السياسية والشعبية في هذا البلد الأمين لها ما يكفي من التجربة، بما فيها عقد من الإرهاب الأعمى على عتبة بابها، كي تختار للمغرب منحى ومسلكا آخر مختلفا عما عرفه تاريخنا قبل إنشاء الدولة العصرية. دولة استتب لها الأمر باستلهامها للخبرة الإدارية الفرنسية، دولة أصبحت محترمة، لها حدود معترف بها دوليا أو يكاد، ومؤسسات مستقرة، من قضاء وشرطة ودرك وخزينة ...، تحتاج طبعا إلى نزاهة وعدالة أكثر، لكنها، على الأقل، وفرت الإستقرار وشيئما من الرفاهية لمغاربة تكاثروا بشكل غير مسبوق منذ النصف الأخير من القرن الماضي : بعدما تضاعف سكان المغرب في فترة الحماية، بلغ عددهم اليوم ثلاث مرات ما كان عليه سنة الإستقلال.

بعد تقاعد المقاومين للإستعمار ووفاة عدد كبير منهم، نرى أن المغرب لم يرجع لما يسمى بالسِّيبَه : نظام سياسي أو بالأحرى إنعدام للنظام يتزعمه شيوخ القبائل والعشائر الذين عاشوا في حَرْكَـه مستمرة مع السلطة المركزية وفيما بينهم لبسط سلطتهم على أكبر عدد ممكن من القبائل مع إبرام تحالفات ظرفية نعرف ويلاتها مثلا عبر ما وصفه إبن خلدون من عصبية. بكلمة موجزة : لحسن الحظ، لم يكرر المغرب تاريخه فيما قبل الوصاية بل إنتقل إلى نظام عصري قابل للتطوير بسلم وأخوة ودون تكفير أو إهدار أو إراقة للدماء، إذا ما اعترف المغاربة بمشروعية النضال السياسي والإجتماعي لتحقيق كرامة وعدالة أفضل.

وما بلوره المغاربة من حل سلمي متدرج بين الآمازيغ والمتحدثين بلهجات عربية الأصل يشجعنا على التفاؤل ويحثنا على المضي في الإنفتاح على ثقافات كل البشر، أكانوا أجدادا أم جيرانا لنا، لا يهم أينتسبون لقبيلتنا أو لعشائر أخرى. نعم، قد يكون هذا الإنفتاح على التعددية هو السبيل لولوج مستقبل وعالم آخر نقبل فيه باختلاف الآراء والقناعات والثقافات دون حرج، دون تشنج، بعيدا عن العصبية ودون اللجوء لأي إرهاب أو تخويف أو تكفير أو تلميح لنيران الدنيا والآخرة وقيام القيامة قبل أوانها.

ولندخل الآن معمعة الثورة الفكرية التي ما زالت تنتظرنا. أود التذكير بأن هويتنا كانت، وما زالت إلى حد بعيد، مبنية على نبذ كل إختلاف وعدم الإعتراف به. لم نكن نقبل سوى الإجماع. إجماع نعلم اليوم أنه وهمي حيث كانت الخاصة هي التي تنتهي إليه بعد حسمه بحد السيف، في أغلب الأحيان (حسم، يحسم، حسما ... حسام). فابتداء من مكة، أي قبل الهجرة وقبل الإعتداء على ضمائر أجدادنا حيث كتب عليهم القتال وهو كره لهم، لم يتحلى مؤسسو هويتنا بسعة الصدر إذ نعتوا إخوانهم وأبناء عمهم وأهل قبيلتهم بالجهلة، وقرروا أن تاريخ الأجداد جاهلية ليتجاهلها الخلف وليدفنوا سماحة الأجداد واحترامهم للتعددية.

لا أحد منا يجهل، وإن كنا نحاول تجاهل ذلك، أنه قد عاش بالجزيرة وبمكة في ظل “الجاهلية”، عرب يومنون بالله (محمد إبن عبد الله) وآخرون بجوارهم يومنون بموسى أو بالمسيح وقبائل تتبرك باللات أو العزة، دون أن ينزعج العرب من أجدادنا لتلك التعددية التي ضمنت لهم طرقا تجارية آمنة في رحلاتهم الشتوية والصيفية. ومن يزور آثار العرب الباهرة بالبتراء مثلا، يلتقي بدليل “حي” على تلك الحضارة المتعددة الأوجه والمنفتحة على الآخرين. ولا بد أن نتساءل : أي عالم من علماء العرب إهتم بكتابة أجداده النبطيين وفك لغزها أو لغز الكتابة المصرية أو البابلية ؟ نعم سبقنا لفهم ودراسة تاريخنا جيران لنا كانوا وما زالوا منفتحيين وشغوفين باكتشاف كل ثقافات العالم في حين أننا ما زلنا نقدس أمواتا دون آخرين من موتانا. فلماذا يا ترى لا نجرؤ على محاسبة فكرية للسلف كي نحرر خلفنا من شبح جزء من الموتى ظل مطبقا على أذهاننا ومقيدا لحرية تفكيرنا ؟

علينا إذن أن نعيد الإعتبار لأجداد لنا كانوا يتحلون بسعة الصدر ولا يلجؤون لقطع الرؤوس كما فعل مؤسسو هويتنا إبتداء من حروب الردة. علينا أن نعيد النظر في تاريخنا الذي جَهَّلَ كل الحظارات القديمة بالشرق الأوسط ليعتبر نفسه متفوقا عليها بينما جل مساجدنا المشهورة كانت وما زالت متكأة على أعمدة مستخرجة من آثار رومانية أو مبنية من أحجار كانت قد تجمعت بمآثر قدامى المصريين. بات من اللازم علينا كذلك تعليم أبناءنا لغات كل أجدادنا الميتة وكتاباتهم لنكتشف حضاراتهم العريقة ونرد الإعتبار لأنفسنا وألا نكتفي بالأربعة عشر قرنا من تاريخنا الإسلامي. على كل المغاربة أن يسارعوا لاكتشاف اللهجات الأمازيغية لجيراننا ولأغانيهم ولقصصهم كي نفهم أن لنا ولهم ثقافة متنوعة وثرية. نعم يجب على المغاربة أن يفتحوا صدرهم للثقافات وللآراء وللقناعات الأخرى المختلفة عما هم به مقتنعون وأن يفهموا أنهم ليسوا شعب الله المختار ليتخلوا عن ذلك الإعتقاد وذلك التعجرف لبني عمهم إسرائيل ليتحلوا غدا بالتواضع والإحترام للآخرين.

إن في الإختلاف الحقيقي ثراء. لقد فقدنا هذا الإرث الثمين منذ أن اعتقد الأجداد أن التوحيد سيقيهم شر الفتنة والحروب الطاحنة التي يتخبط فيها المسلمون منذ أول وهلة وإلى حد الآن. وما التناحر (نحر ينحر نحرا) بين شيعة علي وأهل السنة إلا دليل آخر على فشل وحدانية التحزب على الجانب الأيمن، الأيسر أو الشمالي للخليج و للبحر الأحمر.

فلنحيي من جديد تلكم التعددية الواسعة الصدر التي عرفها أهل مكة والجزيرة العربية قبل أن يجبرهم السيف خلال حروب الردة على لم الصفوف لمقاتلة وغزو الجيران ثم العودة بعدها بقليل إلى نعت إخوانهم في العقيدة بالكفرة أو بالزنادقة أو بالخوارج أو بالشيعة أو … أو إتهامهم اليوم بالعلمانية أو بالسلفية أو ما شابه ذلك من تسميات لا تعني شيئا آخر غير العصبية والإقصاء والمطاردة والتصفية الجسدية.

زيارة موقع الكاتب: http://www.ripostelaique.com

منبر

محمد باسكال حيلوط
متقاعد
باسكال حيلوط
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال