القائمة

الرأي

رجال الشرطة والوساطة الملتبسة بين الدولة والشعب

تمثلات موروثة من زمن الرصاص تعتبر الشرطة “الواجهة المباشرة للدولة “وأكثرها التصاقا بالشعب. إلا أن هذا الالتصاق يطبعه التنافر وسوء الفهم في أغلب الأحيان. ذلك

أن التمثلات السائدة وربما الموروثة من زمن “القمع والرصاص عن “رجال الأمن” ترتبط بالقمع والضرب والرشوة والحكرة والظلم، وما إلى ذلك من قيم سلبية تغطي على المهام الأولى، التي من المفروض أن هؤلاء الموظفين يقومون بها لخدمة الناس والبلد والدولة. وإن كانت ليست دائما تمثلات “واقعية ” حيث قد يمارس أصحاب هذه الأحكام المسبقة أيضا، ظلما بإسقاطهم لهكذا صفات على “موظفين للدولة ” يمارسون مهنتهم “الوسيطية ككل الناس بشكل عادي على الأقل، انطلاقا من صدقهم المهني وحيوية ضمائرهم، ذلك أن أية مهنة لا بد أن تتأثر بشخصية صاحبها، أي بمزاجه ومعتقداته وقيمه التي تكون تربيته قد رسختها فيه قبل التأثر بالتوجيهات المهنية وأعرافها وأيضا بشروطها..

نشر
DR
مدة القراءة: 5'

الشروط المهنية المتدنية لبعض القطاعات

ولعل هذه الشروط المهنية التي يمارس فيها العديد من موظفي الدولة، على اختلاف اختصاصاتهم، هي التي تؤثر في صورتهم لدى الرأي العام، سواء في اتجاه سلبي أو إيجابي، وهنا قد لا تختلف المهن التي تتطلب الحزم والصرامة والقوة، مثل الأمن والجيش، مع المهن ذات الطابع الإنساني مثل الطب، فكلا المهنتين تمارسان في المغرب في شروط قاسية جدا تنعدم فيها التجهيزات والوسائل البشرية منها والمادية، وحتى المعنوية، فيبدو أصحابها مقصرين جدا، مهما بذلوا من جهود، وتكون النتيجة هي “كراهيتهم من طرف الشعب وتحميلهم وزر تردي أوضاع قطاعات حيوية، فقط لأن علاقتهم مباشرة مع الناس. ولعل هذا ما يفسر الانتحارات المتتالية لرجال الأمن، وأيضا لبعض مسؤولي قطاع الصحة، لأن ضمائرهم لم تتحمل العجز في أداء المهام المنوطة بهم، في شروط ملائمة، فاختاروا وضع حد لحياتهم، كأسلوب للاحتجاج أمام عجز أساليب تواصلية أخرى في إيصال الرسالة لأصحاب القرار الأكبر.

مجتمع يغلي وانفجارات على بسطاء الموظفين

ومما لاشك فيه أن المشاكل الاجتماعية بالمغرب هي في حالة فيضان، ويبدو كأن المجتمع يغلي بالحاجيات المؤجلة، التي سرعان ما تتحول إلى انحرافات، وفي أحسن الأحوال إلى غضب وسخط، ينفجر في وجه موظفين لا يملكون إمكانيات الإجابة عن حاجيات الناس، ودولة تبدو عاجزة عن بلورة سياسات لتدبير هذا السخط العارم، الذي أفرزته سنوات عديدة من غياب التوازن في الخدمات، وفي توزيع الثروات ما بين الفئات الاجتماعية والمناطق وحتى القطاعات، وتراكم نهب المال العام، وسوء تدبيره، واستمرار بعض كبار أصحاب القرار في احتقار من هم أصغر منهم في التراتبية، رغما عن مستوياتهم الدراسية العالية، التي تجعلهم لا يقبلون ب”الحكَرة” وسوء المعاملات مهما كانت الظروف. ذلك أن العِلم غالبا ما يحقن أصحابه بجرعات عالية من الكرامة، وأغلب رجال الأمن الجدد هم جامعيون..

وتزامن كل هذا مع تنامي الوعي لدى الساكنة، التي لم يعد التجهيل والتعتيم قادرا على إسكاتها، في زمن ثورة المعلوميات والحصول على الأخبار والمعطيات بشتى الوسائل، فباتت تطالب بحقوقها على شكل “احتجاجات ” ذات طابع عفوي في الغالب يكون أول من يحترق بها “موظفون بسطاء لا حول لهم ولا قوة، وهم أيضا ضحايا بطريقة أو بأخرى.

رجال الأمن ضحية لتنامي الاحتجاجات

لضبط هذا الكم الهائل من الاحتجاجات الشعبية وغيرها من التظاهرات العادية، وكل ما يتطلب الحضور الأمني، باتت الدولة تحتاج عددا هائلا من رجال الأمن، لا تتوفر عليه الدولة حاليا، فكانت النتيجة “حرمانهم من العطل واستنزافهم لأبعد حد ممكن، وتنقيلهم حسب الحاجة من قطاع إلى آخر ومن مدينة لأخرى، متجاهلين لحاجياتهم النفسية والاجتماعية، التي تبقى أيضا مؤجلة وتشعرهم بالإحباط والحرمان، فهم بشر أولا وأخيرا، يحتاجون قسطا من الراحة لتجديد الطاقة الجسدية، ودفء العائلة لتجديد الطاقة النفسية، كحق بشري لا يناقش مهما كانت طبيعة المهنة.

غير أن رجال الأمن محرومون من حضور المناسبات العائلية والاجتماعية، لأنهم قلما يملكون الوقت لذلك، وأبسط غياب قد يتطلب رخصة استثنائية، مما يجعل علاقاتهم التراتبية، يطبعها الجفاء وانعدام الود، هذا بالإضافة إلى نقص وسائل العمل المادية من سيارات وحواسيب وهواتف وربما أوراق وكاتبات وووو.. فكل من يزور”الكوميساريات” لسبب ما، قد يقف على هذه الحقائق المؤلمة، بدون أن ننسى أن طبيعة عملهم في حد ذاته، يحمل طاقة سلبية قد تؤثر على مزاجهم شاءوا أم أبوا.

فالأمنيون يتعاملون مع أوضاع الجنوح والإجرام والخروج عن القانون، وفي حالات الاحتجاج يتعاملون مع الغضب والسخط ضد الدولة، ويشكلون تلك ا الاسفنجة التي من المفروض أن تمتص السخط والغضب الموجه لدولة “هلامية “يشكل رجال الأمن وجهها المباشر، فهم يمتصون كل أشكال التوتر الفردية منها والجماعية، خلال ممارسة مهامهم المهنية، مما يتطلب إجراءات نفسية لتحصينهم نفسيا، والتنفيس عنهم عوض الإمعان في الضغط عليهم وكأنهم مجرد أدوات لامشاعر لها.

الضغط والتذمر

هذه الضغوط من الطبيعي أن تؤدي إلى التذمر والسخط والغضب، مشاعر لا يجد رجال الشرطة من وسيلة للتنفيس عنها عبر النقابات المهنية لأنهم محرومون منها، وبالتالي نجد أمزجة أغلبهم دائما مشوشة، سريعة الغضب والقلق والاكتئاب، مما يجعل الكثير منهم يقبل على شرب الخمور مما يعمق من مشاكلهم العائلية، التي يكون غيابهم وإهمالهم لأحوال الأسرة أحد متلازماتها..

ولعل تواتر انتحارت بعض رجال الأمن، ليست اعتباطية ولا يمكن تفسيرها حسب البلاغات الرسمية، بالأسباب العائلية لأن هذه الأخيرة نتيجة وليست سببا للشروط المهنية، التي باتت تتطلب معالجة حقيقية وفي أقرب الآجال، إذا أرادت الدولة الحفاظ فعلا على أمنها وأمن هذا الشعب، الذي بات يحتاج إلى مزيد من الأمن مع تنامي الانحرافات المنتجة للرهاب الاجتماعي.

منبر

عائشة التاج
أستاذة وباحثة
كاتبة وباحثة اجتماعية
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال