القائمة

الرأي

ديوان "أكره الحب" بين ميثولوجية الأرض والعالم العنكبوتي

ينغمس ديوان طه عدنان "أكره الحب"، الصادر في طبعته الأولى عام 2009، عن دار النهضة العربية ببيروت، حتى النخاع الشعري في همّين أساسيين، ولربما متكاملين: قضية الهجرة والعالم الافتراضي الرقمي. يتكوّن الديوان من تسع قصائد وهامش صغير، كتبت في تواريخ ومدن غربية مختلفة: بروكسيل، بوستن، نيويورك وبودابيست.

نشر
DR
مدة القراءة: 8'

يستهل عدنان ديوانه بـ"القصيدة الكونية"، التي توحي بالهم الذي يحمله تجاه القافية وحبه القوي لعالم الصور الشعرية والاستعارات: "كنّا صغارا حينما أحببتُها/ كأنبياء/ نمشي على ماء زلال/ وكأشقياء/ نرشق الريح الشفيفة بالنبال".

وعلى الرغم من وعيه بأن الشعر ليس فقط إلهاما ولا لعبا بالمفردات، فإنه جاد في التزامه الوجودي الواعي بها واستعداده للمضيّ في سبيلها بكل إلحاح: "بحكمة سلحفاة تُغريها الطريق/ ولا يعنيها الوصول/ سأمضي صوب ما لا يعنيني/ بمزاج حائكٍ أعمى/ أُرتّق مِزَق الكلمات/ لأصفّفها جملةً جملةً/ مقطعًا مقطعًا". وتدخل ثيمة الهجرة من بابها الواسع في هذه القصيدة، بكل إشكالياتها المعرف-وجدانية: "أخي الأصغر سافر دون وداعي/ ولم يكتب منذ رحل/ لربما أورلاندو/ كانت أكثر وطنًا". يمتدّ إذن الجسد المهاجر على طول الديوان، متأرجحا بين الحنين والنقد المزدوج للوطن الأم والموطن الجديد. بل تتقاطع الهجرة والعالم الافتراضي في قصيدة "وئيدا أحفر في جليد حيّ": "ضيّعتني الأنترنيت/ بدّدت دفئي الباقي/ ولم أجْنِ منها سوى الوحدة/ والقلق". ولا غرابة في مشي الموضوعين يدا في يد طوال هذا الديوان، لأن الثاني منهما خلق نوعا جديدا من "المرشحين" للهجرة، الضائقين ذرعا بالوطن، الذي لم يستوطنهم، وكانوا مستعدّين لكل شيء من أجل عيون الهجرة: "أصدقائي تائهون/ في سوق المضاربات الغرامية/ منهمكون في كتابة الرسائل العابرة للقلوب/ والقارّات [...] لكنهم لا يفكرون إلا في أوراق الإقامة [...] لتستقبلهم شقراواتٌ بمعاطفَ/ يُرصِّعها البَرَد/ في المنافي الأشدّ ضراوة [...] تبًّا للحب الإلكتروني/ ضيّعهم تماما/ كما ضيّعت عيناي/ دمعاتها السخينة".

يتجلى الحنين وهذا الدمار الوجودي الداخلي للشاعر في أبيات كثيرة مثل: "أنا القادم من جهة الشمس/ محنتي هذي البلاد المطيرة [...] أحصي خساراتي/ فلا تكفيني الأصابع". ويتعمق جرح فراق - ولربما ضياع - الوطن أكثر فأكثر: "تائهٌ أجرجر أثقال روحي/ من المحيط الأطلسي/ إلى بحر الشمال/ تائهٌ والحيرة عكازي". ثم تنبثق "ميثولوجية الأرض" الضائعة: "مثل أصحابي هناك/ كان لي بابٌ ومفتاح قديمٌ وسماءْ/ كان لي دفتر أشعارٍ/ سريرٌ ورفاقْ/ لكن أغوتني قصائد سكون بولص/ أغواني أدب المهجر". ميثولوجية الأرض هذه تفرق بالتدقيق بين أرض الوطن للآخرين وأرض الوطن التي كان يحلم بها الشاعر و"يتقاتل" من أجلها مع رفاق الدرب: "كان اللهب يتطاير من أرواحنا/ وكان الرفاق يحلمون ويفرحون/ ويحزنون ويموتون باسمين". وتعمل ميثولوجية الأرض عمل الخنجر في وجدان الشاعر عندما يقارن "نضال" جيله من أجل الوطن و"تنصل" أشباه يساريين للوطن في الغربة: "هنا مجرّد متياسرين محترفين/ يقايضون آلام شعوبهم ثمنا قليلا/ ولا يتورّعون عن لعن أسلافهم/ أمام أول شقراء".

في شعوره بالفقدان الوجودي بفعل ميثولوجية الأرض و"خيانة" "المتأيسرين" لقضيتهم، ينهار وجدان الشاعر في هذه الأبيات: "لم أعد أعرف وجهي/ في مرآة المغسلة/ لم يعد فيَّ/ ما قد يدل عليَّ". و يقود كل هذا إلى حالة وجودية بامتياز، تتمثل في الضجر، أو قل الملل والضيق من كل شيء. ويتجلى ذلك في أبيات من قصيدة "الشاشة عليكم": "كل شيء هنا بات يضجرني/ يضجرني ساعي البريد/ يُنبِّهني إلى أن صندوق بريدي/ عشّشت فيه العناكب/ تضجرني زيارات الأصدقاء/ يطرقون بابي/ دون سابق موعد". وهو ضجر يقود إلى اللامبالاة والخمول السلبي، لمن لم يع هدف وجوده، لكنه يصبح قوة دافعة عند الشاعر، لأنه يُستثمر بعقل ووعي الواقع ويفتح عينيه على مصائر قوم آخرين، ممن يقاسمونه مرارة الغربة في المهجر. فـ"مرثية أمادو ديالو"، الذي قُتل تحت رصاص سود القلب من البيض في نيويورك، تفتح أفقا جديدا للشاعر في محاولة فهمه لِهَمِّ الغربة والتناقض بين مبادئ أيديولوجيات الغرب وتطبيقاتها: "أهلا بك في نيويورك/ حيث الحرية تنام/ واقفة/ على شكل تمثال [...] هنا أطلق رعاة البقر/ إحدى وأربعين طلقة/ على أمادو ديالو/ لمجرّد أنهم ارتابوا/ في جلده".

أما في قصيدة "أي لوف يو I Love you" فتتعانق الهجرة والعالم الافتراضي من جديد، ليموضع طه عدنان بعدا جديدا للهجرة لم يسبقه مثيل، بكل سلبيات التغريب الثقافي الناتجة عن هذا الوضع، بل سلب الشخصية الذاتية للمهاجر والزجّ به في أتون "إدماج قهري"، يسلبه آخر معاقل هويته: "أن تبحر/ في علاقة حب إلكترونية/ تفضي بك إلى زواج سريع/ [...] أن بمجرد حصولك/ على البطاقة الخضراء/ تسارع إلى تغيير اسمك العربي/ متنكرا لسلالتك [...] ألا تبدو محرجا و مغيظا/ كلاجئ مجبر على شتم بلاده/ كيما يبقى/ على قيد الحرية [...] و أن تكبت تماما/ غرائزك القومية [...] ليس يعني سوى أنك/ أصبحت عنصرا صالحا/ للاندماج السريع/ في قبيلة العولمة".

يستعرض في قصيدة "الماروكسيلواز" حال فتاة من الجيل الثاني للهجرة. جيل تعيش تمزقا وجوديا حقيقيا بين ثقافتين، متقصيا طريقة تربيتها خطوة خطوة، من الصغر وحرمانها من طفولتها و"فرض" تعلم لغة، يدعي المرء أنها لغة آبائها وأجدادها، وهم فيها لا يفقهون، لأن لهجتهم إما دارجة معربة أو أمازيغية "مُحجبة". وفي سن المراهقة، وككل جيلها، تتمرّد بطريقتها على تربية أسرية قاهرة ومقهورة: "تخفي السجائر/ بين النهدين/ تضحك ملء غرائزها/ وتصرخ في المترو [...] تسقط/ في فخ مراهق شقي [...] يعجن طراوتها/ بيديه/ يمصمص حلوى أنوثتها/ بشفتيه/ ويلحس آيس كريم رعشتها/ بلسان من نار". ويقود هذا من طبيعة الحال إلى إيقاظ ما بقي متخمّرا من عقل القبيلة عند من تبقى من أبناء القبيلة المهاجرة من قيم وإكراهات جاهلية مثل جلب العار والثأر ولربما القتل أو "السجن" وراء أسوار عالية، بنتها القبيلة كحدود طبيعية غير مرئية بين الفرد وذاته، بين الروح والجسد، بين اللذة والكبت، وتقحم إناثها رغم أنفهن في ثنائيات قيمية وأخلاقية: "عربية/ أعجمية اللسان/ تغطي الرأس بالفولار/ والوجه بمساحيق/ فصيحة الألوان/ لا تعجن الخبز/ ولا تهيئ الكسكس [...] تسمع الرّاي والهيب هوب/ وترقص على إيقاع الشعبي/ وحين ترتاد الديسكو/ تنزع الفولار/ وتكرع الكوكاكولا لايت". أما عندما ترجع إلى بلاد "الأجداد" فإنها تصبح محطّ اهتمام كل حالم، ليس مبدئيا لجمالها أو أخلاقها أو "أصلها"، بل قبل كل شيء: "مثيرة كتأشيرة/ مغرية كأوراق الإقامة". وعندما تقاوم، وتثور وتبدي معارضتها للزواج من "قريب بعيد"، وتصفي حساباتها مع القبيلة، وهو شيء يتم في الغالب بأبهض الأثمنة المعنوية، "تقصى" من حظيرة القبيلة، وترمي بالفولار جانبا، لتنغمس في حرية مؤقتة، ليسترجها الزمن من جديد بعدما يُمتص رحيقها من طرف صيّادي اللذة الجسدية وتذبل "كتينة" الخريف، وينتهي بها المطاف بالزواج من أول قادم، تحت وطأة غريزة تمرير جينات النوع للأجيال اللاحقة على حساب كرامتها وحقها في الحياة وتعيش "أَمَة" في بلاد "الحرية"، تقتات من خيبة أملها وتعاسة أيامها.

ينتهي ديوان "أكره الحب" بعيّنة أخرى من المهاجرين، لم تتبع الطريق الافتراضي والإبحار في محيطات الشبكة العنكبوتية، بل اضطرت إلى ركوب المخاطر والإبحار ضد التيار للوصول إلى "الشمال"، بكل ما يعنيه هذا من نتائج على الفرد ومصيره كإنسان، يختار عن طريق "الهجرة السرية" سجنا واسع الأرجاء، لا يرى أصواره العاتية إلا من بُليَ بها. قصيدة "نينو" ترسم بدقة لوحة ماشية على أرجلها لأناس تخلصت منهم الضفة الجنوبية للمتوسط، ليجدوا أنفسهم سجناء وجوديين في شوارع أوروبا: "له في كل جيب هوية/ وفي كل بلاد ملف وقضية/ وفي كل مجمع/ عدو وحبيب". و بما أن "حب الحياة" وغريزة البقاء تبقى حية في الإنسان إلى أن يموت، فإن نينو يهيم على وجهه ليعيش من أعمال، ليست بالضرورة لا أخلاقية، بل "محرمة". وعندما تستفيق المراقبة وتلقي عليه القبض وتقرر ترحيله، ولفظه من حيث أتى، تتأكد هويته الهاوية، الممسوحة من كل السجلات: "وحين همّوا به ليرحّلوه/ إلى دياره/ احتاروا في أمره/ إذ لم يجدوا له خارج ثوبه وطنا/ ولا خارج نعله سكنا".

"أكره الحب" هو بالفعل كره لنوع معين وخاص للحب، إذ يُعتبر كحدّ وجودي طبيعي بين حب باهت، براغماتي، هدفه الأول والأخير هو حسابات لا نهاية لها لما يجنيه من بيع كلمة "حب" في المزاد العلني، بُغية تحقيق "حلم" الهروب من الوطن الأم، ليسقط في براثن الغربة؛ وبين الحب الحقيقي، النابع من أعماق نفس متوازنة وجوديا ونقدية فكريا وذاتيا ومجتمعيا. "أكره الحب" هو إذن دعوة لوعي قاذورات "الحب المزيف"، المتنصل لكل المبادئ والماسخ، بل الماسح، للهوية الذاتية، المتجرجرة وجوديا في وحل فقدان كل هوية، ليؤثث الإنسان، والمهاجر بالخصوص، حياته بأكاذيب على الذات وعلى الآخر، فاقدا بذلك نفسه والآخرين على حد سواء. إنه دعوة ضمنية لتجاوز هذه الدوخة الوجودية الهالكة، التي تُباع فيها صكوك الهجرة بأغلى ثمن، بالتخلي اللاواعي عن أقدس المشاعر الإنسانية: الحب. تغنى طه عدنان في ديوانه هذا بهذا الحب كما تغنت كل ثقافات الأرض به و قدسته ووضعت على رأسه تاجا ذهبيا وأحاطته بهالة قدسية وبوّأته أحسن مكان على قمة الأحاسيس الإنسانية النبيلة وجعلت منه الداء والدواء للأرواح العطشى والقلوب الظمئانة. شغل موضوع الحب هذا البشرية منذ وجودها ولا يزال يشغلها وسيشغلها ما دامت موجودة. سهر بسببه الشعراء وقضّ مضجع الأدباء، وأطرب المغنين، وألهم المخرجين السينمائيين والمنشغلين بالمسرح والفن التشكيلي، بل تاه في دروبه الفقهاء والقساوسة والربانيون. يقف ديوان "أكره الحب" إذن في الحدود الوجودية بين الحب "المزيف" المصبوغ والحب الواعي النقدي، الخلاق، كجندي يحاول إيقاظ النفوس بطلقات نارية في هواء النكسة الوجودية لمن يمتطي الحب، ليس من أجل الحب، والحب وحده، بل من أجل الإبقاء على غريزة البقاء فيه، حتى وإن كان ذلك على حساب كرامته الإنسانية. إن هذا التقاطع والتكامل، بل والتشابك، بين ميثولوجية الأرض والعالم الافتراضي، هو حثّ ضمنيّ على الرجوع إلى الوطن الأصلي، الذي ليس له فضاء وزمن معين، بل يذوب فيه الوجود والوقت، مفجرا الحدود الوجودية اللاواعية، فاتحا الباب على مصراعيه للحب الحقيقي كوطن فعلي للأرواح التائهة في فيافي هذا الوجود الضائع بين مدّ العالم الافتراضي وجزر حلم الهجرة.

منبر

الدكتور حميد لشهب
عضو المجلس البلدي لمدينة فيلدكرخ النمساوية
حميد لشهب
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال