القائمة

الرأي

"الخوف من الحرية"

لوحظ دأب حثيث في ترجمة مؤلفات فروم إلى اللغة العربية في العشرين سنة الماضية و تكاثفت هذه الترجمة في العشرة سنين الماضية و بالخصوص في المشرق العربي، في مصر و العراق و بالأخص في سوريا. فقد تعدى المرء ترجمة أكثر من عشرة كتب له، و بالخصوص تلك التي يُنَظِّرُ فيها لميكانيزمات السلطة الهدامة و الديكتاتوريات المقنعة و نقد المجتمع الإستهلاكي، الذي يجرد المرء من ملكة النقد القابعة فيه، ليصبح مستهلكا طيعا، حتى لقد يرفع شعار: "أنت تستهلك جيدا، إذن أنت مواطن جيد". و تبقى تنظيراته حول عتق وعي الشعوب بمسؤوليتها عن مصائرها و ضرورة تحررها من براثن لاوعيها كشرط لتحررها من خوفها من ذاتها و مصيرها، ليتم التحرر النقدي الفعلي في المجتمع، من أكثر الكتب التي حظيت باهتمام المترجمين العلمإنسانيين في العالم العربي.

نشر
DR
مدة القراءة: 6'

من بين أهم كتب فروم في هذا الإطار هناك كتابه: "الخوف من الحرية" „Die „Furcht vor der Freiheit (الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ميونيخ، 1989)، حتى و إن كانت الكلمة العربية "خوف" لا تعبر بدقة عن الكلمة الألمانية „Furcht“، لأن هذه الأخير تتضمن كذلك معاني كثيرة مثل "الرعب" و "الفزع" و "الهلع". نشر هذا الكتاب عام 1941، في عز الحرب العالمية الثانية، و يعتبر ثمرة تأمل فروم لحالة الدمار الشامل التي سببتها هذه الحرب و الرغبة في فهم الأسس النفسية و الإجتماعية التي قادت إليها عند الإنسان الغربي؛ في الوقت الذي كان المرء يعتقد بأن "العقل" و الإحتكام إليه كان قد تربع على السلوك في الغرب. و الكتاب جزء من دراسة شامل تعالج الطابع المميز لنسيج الإنسان الحديث والمشكلات الخاصة بالتفاعل بين العوامل النفسية والإجتماعية التي اشتغل عليها فروم لعدة سنوات. و كان سبب اهتمامه بهذه الدرسة هي التطورات السياسية والأخطار التي رافقت أعظم إنجازات الحضارة الحديثة- التفردية وفردانية الشخصية-، مركزا على جانب واحد منها وهو الجانب الحاسم في الأزمة الحضارية والإجتماعية للحضارة التقنية: معنى الحرية بالنسبة للإنسان في حضارة اليوم. ذلك أن المرء لا يمكن فهم معنى الحرية فهماً كاملاً إلا على أساس تحليل الطابع الكلي لشخصية الإنسان الحديث.

يرى فروم بأن أحد أسباب خوف الإنسان من "الحرية" يتجذر في تنظيرات سيكولوجية بعينها. فقد قام مثلا بتكسير بديهيات أرساها مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد، والتي كانت مشروطة بشكل أو آخر "بذكورية" سياق اجتماعي امتد زمنا طويلا.  و هي البديهيات نفسها التي أسست لفهم مغلوط عن الدينامية التي يعمل بها المجتمع وخاصة في وقت يتم الحديث فيه كثيرا عن الحرية الفردية والمجتمعات الديمقراطية . و السؤال الجوهري الذي يطرحه في هذا الإطار هو: "أحقا نحن أفراد أحرار؟"، أنعيش في مجتمعات تكفل للفرد نموه الطبيعي العفوي والمندمج في المجتمع وفق النشاط الحر؟ أم أن ما ضحت الإنسانية به من أجل مثل سامية ما هو إلا عبودية موغلة في الذات، بعدما كانت هذه العبودبة تمارس عليها من الخارج، و أصبحت مقبولة أخلاقيا؛ اعتقادا بأنها صادرة عن الضمير ومتبناة من قبل الفرد ذاته كطمأنينة يسعى إليها. أما الدليل على هذه القناعة الزائفة فهو ما أفرزه القرن الأخير من حروب مهولة ومرض العصر "الإكتئاب" الذي يفتك بالإنسان ويجعله فريسة سهلة لعبودية الإستهلاك والتشييئ الإجتماعي، المؤسس على القهر المادي و المعنوي.

يخصص فروم جزء مهما من الكتاب ليعود للتاريخ ولبداية عصور النهضة دارسا التحولات التي وقعت في المجتمعات الوسيطية و إفرازات حركة الإصلاح الديني ونمو الرأسمالية، منتهية في شكلها الإحتكاري و الطريقة التي وصلت بها أوروبا إلى حربين عالميتين. و كان الهم الرئيسي الذي رافقه في هذه الإطلالة التاريخية هو فهم الميكانيزمات التي تعمل في المجتمع والفرد، إيمانا منه بضرورة التطابق في التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع. و يحلل في هذا الإطار الطبع التسلطي وتمظهراته سواء بشكل شاذ مازوخي، مؤكدا كيف أن النازية مثلا لم تكن سوى رغبة دفينة في مجتمع عصفت به الرأسمالية الإحتكارية والفردية التي نتجت عن حركات الإصلاح الديني والفكر التنويري في القرون اللاحقة.

حاول فروم تحليل إشكالية رئيسية عبر عنها بسؤال جوهري: "هل يهرب الإنسان حقا من حريته ولماذا؟" وهل يقبل من ناضل طويلا للحصول على حقوق كثيرة الحالة التي وصلت إليها الحرية تطبيقا؟ هل الحرية والإستقلال والفردانية الشخصية  من أهم أسباب تعاسة الفرد في زماننا هذا؟ أم أن هذا الفرد يبحث بوعي أو بدون وعي عن عبودية جديدة ليشعر بالأمان؟ كان الفرد قديما شخصية شبه ذائبة في مجتمعه، يقبل دوره المفروض عليه نظرا لمشروطية وجوده في جماعة ما وكان مكتفيا بمكانه وزمانه كطفل صغير بين أحضان والديه. لكن بحكم تطور الإنسان التدريجي وسيطرته على الطبيعة حصل شيئ لم يكن في الحسبان، كبح نمو مؤهلات الإنسان لعيش الحرية والفرادنية الشخصية و تركها تتفتح في وعيه بالكامل؟

من بين أهم النتائج التي يؤكد عليها فروم للإجابة على هذه الأسئلة المعقدة هو أن الإستقلال المادي النسبي للإنسان جعله وحيدا بعدما كان يجد عزاءه في محيطه.  أوغله هذا الاستقلال في العزلة و الوحدة والخوف، و بالخصوص بعدما نجحت حركات الإصلاح الديني و الثورات الفكرية في أوروبا في عزلته ليواجه  وحيدا المطلق، بعدما كانت المؤسسة الدينية تُؤَمِّنُ له "تدجين" هذا المطلق، حتى و إن كان يخسر من أجل ذلك حريته الشخصية. و قد تزامن هذا الفراغ الروحي المهول مع التطور الصناعي والإحتكارات التي رافقته وتحول الهدف من النشاط الإنساني كليا إلى السلعة، و هذا ما سبب أسره في عالم الإنتاج. أصبح الإنسان، في نظر فروم، آلة منتجة ليس إلا، كل ما يطالبه به المنطق الصناعي هو الإنتاج و الإستهلاك فقط.

تحت هذه الضغوط ، أصبح يبحث عن "قبيلة" جديدة، بعدما أفل نجم القبيلة القديمة، و أُوهِمَ بأن هذه "القبيلة" تضمن له حريته الشخصية و استقلاله الذاتي، و هذا صحيح على المستوى النظري – الخطابي المحظ، لكنه في الواقع الفعلي للرأسمالية وجد نفسه في قبائل ديكتاتورية وليبرالية، لا تهمها إلا المنافسة  العمياء و محاولة ابتلاع و ابتلاع مضاد، دون أن تُؤَمِّنَ له الظروف المناسبة لنموه الإنساني الذاتي، بل أفرزت مناخات من القلق و عدم الإستقرار و التحديات الوجودية السلبية. و في قرارة خوفه، و بما أنه يتمثل الإستقرار بطريقة لا واعية في حضن "القبيلة القوية"، فإنه يتبنى عن وعي و بكامل "الحرية" قيم هذه القبيلة، دون مناقشتها، و هذا في نظر فروم عربونا على أن حريته لم تكتمل. و النتيجة  هي إحباط تحرره الداخلي و قتل ملكة الحكم و النقد فيه، ليستسلم إلى عبودية جديدة أشد ضراوة من السابقة، تتمثل في استعباد ذات الإنسان بكل رضاه.

يمكن تلخيص النتيجة العامة التي يصل إليها فروم في التالي: لن يكون الإنسان إنسانا إذا ما لم يتم السماح لمواهبه الذاتية بالتفتح عن طريق الحرية والنشاط العفوي والحب. فقد قطع الإنسان نصف الشوط  في حضارته و استطاع أن يتحرر من عبودية الخارج ولم يبق إلا أن يتحرر من عبوديته الداخلية الذاتية ليصبح متحررا في ذاته لا في سياقات مفروضة عليه.‏

منبر

الدكتور حميد لشهب
عضو المجلس البلدي لمدينة فيلدكرخ النمساوية
حميد لشهب
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال