القائمة

الرأي

السنونو والجوارح في قصيدة "سائحة مفلسة بساحة الهديم"

عندما يرتمي المرء في أحضان ديوان: "أرض الفراشات السوداء" للشاعرة المغربية ليلى بارع، يكون مضطرا للتخلي عن كل فهم تقليدي لنظم االشعر، سواء بالطريقة التقليدية المعهودة أو الجديدة، حيث يأخذ الشاعر حريته في إطلاق عنان إبداعه دون تقيد ببحور وتقنيات القصيدة التقليدية. يعتبر هذا الديوان خزان أفكار لا يكل عن طرح أسئلة ذات صلة مباشرة بمعاش الشاعرة ونظرتها للحياة وللظواهر الإجتماعية والسياسية السائدة فيه. وبذلك يمكن اعتبار كل قصيدة من الديوان بمثابة تصوير حي ومباشر للحظات بعينها من مخاض الثقافة العربية عامة والمغربية خاصة. وككل مرحلة مخاض، تختلط الخيوط على المفكر والشاعر، في شبه دوخة إبستيمولوجية، لا يتحرر منها، إلا من وُهب بنظرة مستقبلية واضحة، أي تصور واستشراق للمستقبل. وهذا حال قصيدة: "سائحة مفلسة بساحة الهديم"، عنوان يستحق لوحده وقفة تأمل لربطه بمضمون القصيدة ككل. ألهمت الشاعرة ساحة الهديم، القلب النابض لمكناس، هذه القصيدة. ويمكن اعتبار هذه الساحة مثالا ميكروسكوبيا للوطن الماكروسكوبي. إذا ربطنا كلمة "سائحة" بـ "بطل"القصيدة، المتمثل في طائر السنونو، الإسم المحدث لـ "الخطاف"، فإن معنى "السائحة" يتجلى بكل إشعاعه وإشكالياته، قبل أن نفهم، لماذا تكون هذه "السائحة" مفلسة.

نشر
DR
مدة القراءة: 6'

تقول القصيدة بالحرف"

"سائحة مفلسة بساحة الهديم

"مرت السنونوات فوق شعري

ومضت إلى هناك مسرعة

مترنحة في سمائها..

ولم تسقط حتى حين لامس..

سوادها تراب القلب

مرت ومضت هناك

فوق الساحة والثعابين والعشاق

والطين الملون بأنامل.. أبناء الشعب

مضت دون أن تشرب معي قهوة الصباح

دون أن تقول

كيف أنتِ؟

أولم تشتاقي..أولم يكن بيننا من وعد؟

وضحكتُ مني حين قلتها

ووضعت ساخرة قطعة سكر زائدة

في الكأسِ

مرت السنونوات فوق شعري

ومضت هناك

حيث انتصبت أقواس العبيد

و حيث مرت يوما حوافر الخيل

ذاك الصباح

كسائحة مفلسة مشيت

و الشمس حزينة تعلقت كطفل

بشعري

كسائحة مفلسة مشيت

وجيوبي مليئة بالحب الذي ما عاد يُجدي

كسائحة وحيدة مشيت

والساحة صاخبة من حولي

كسائحة حزينة مشيت

والفرح يباع في الدكاكين الصغيرة

لمن يشري

مشيت في "السكاكين" و"درب الفتيان"

حتى لا يختنق الزهر في قلبي ويبكي

مشيت

ورغبت فقط لو جاءت السنونوات

وجلست

مسافة فنجان قهوة

بقربي.." 

يحمل اختيار السونونو في القصيدة دلالات كثيرة، كثرة الرموز التي يدل عليها. اهتم بهذا الطائر السحرة والمشعوذون والكهنة، وله آثار واضحة في أساطير الكثير من الثقافات، بل في ديانات عديدة. ألهم شعراء وفانة تشكيليين ومخرجين سينمائيين إلخ.

يتهافت المشعوذون، وبالخصوص في المغرب، على الخطاف حيا أو ميتا، اعتقادا منهم بأنه صالح لبعض الأمراض النفسية أو لجلب الحبيب وتسهيل الولادة. كما خصص له مفسروا الأحلام المسلمين حيزا وافرا من اهتمامهم. فابن سيرين والنابلسي و ابن شاهين، أجمعوا من بين ما أجمعوا عليه بأنه يدل في الحلم على رجل مؤمن أديب ورع مؤنس ومن رءاه في بيته، فهذا يدل على أن ماله حلالا طيبا. وقال أبو داود بأن النبي (ص) نهى عن قتل الخطاطيف. ويعتبر السنونو في منطقة اللورين Lorraine الفرنسية، وبالضبط في ضواحي مدينة ميتس Metz فأل خير، ويؤذى من يقتله. يُعتقد بأنه يصل المنطقة في يوم 25 مارس l'Annonciation ويغادرها يوم 8 شتنبر (يوم ميلاد العذراء). أما في الكونفوشية، فيعتقد بأنه يختفي في الخريف في أعماق المياه ليقضي هناك فصل الشتاء ويتحول إلى صدفة مائية ويصبح من جديد سوسونا في فصل الربيع بتتبعه لحركات الشمس. يقول محمود درويش في "سنونو التتار": أَنا حُلُمي. كُلَّما ضاقت الأرضُ وَسَّعْتُها/بجناح سُنُونُوَّةٍ واتسعْتُ [...].ويقول في أخرى: "أمن أرض بعيدة/تأتي السنونو، يا غريب ويا حبيب، إلى حديقتك الوحيدة؟/ خذني إلى أرض البعيدة/خذني إلى الأرض البعيدة". ونجد أيقونة السنونو عند نزار قباني مثلا في قصيدة "دارنا الدمشقية": "أسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا" و في قصيدته"إلى مُصْطَافة": "جُمُوعُ السُنُونُو على الأفق لاحَتْ/ فَلُوحي .. ولو مرةً واحدهْ..".

في زحمة كل رموز السنونو التي مرت بنا، نحاول استقراء رمزية سنونو القصيدة التي بين يدينا، علها تبوح لنا بما يختبأ ورائها. فالتحليق السريع للسنونوات على رأس الشاعرة، هو تحليق لأفكارها، التي: "لم تسقط حتى حين لامس../سوادها تراب القلب". القلب في حد ذاته هو عبارة عن سونونو يغني الحياة والشعر والموسيقى، يثمل بنشوة اللانهائي، ويطير حالما متحررا من إكراهات العالم الأرضي. طبقا لميرسيا إلياد فإن: "رمزية الطيران في جميع مستويات الثقافة، وعلى الرغم من الفروق الكبيرة في السياقات الثقافية والدينية، تعبر بصورة دائمة عن تجاوز الشرط البشري، وعن التعالي والحرية". اتجهت هذه الطيور الوديعة إلى مكان محدد: "ومضت هناك/حيث انتصبت أقواس العبيد/و حيث مرت يوما حوافر الخيل". توجهها لهذا المكان بالضبط، ليس للإستقرار، لأنها طيورا مهاجرة، حرة وطليقة، بل للتذكير بأن تلك الأقواس بنيت على جثث العبيد، وبأن ساحة الهديم، كرمز للبلد كله، لم تتحرر بعد من حكم الطاغوت فيها، على الرغم من أن وجه الطاغوت قد تغير. لم يعد هذا الأخير متجسدا في شخص واحد، لربما فهم روح العصر وفتح الكثير من الفانتيلات ليتنفس البلد، بل لطاغوت الأحزاب السياسية، التي لم تفهم بعد بأن "التناوب" على الحكم، ليس هو "التناوب على خيرات البلد" وقهر الشعب، بل التناوب على مصلحة هذا الأخير أولا وأخيرا. وينقشع "إفلاس" الشاعرة عندما تصدح: "كسائحة مفلسة مشيت/وجيوبي مليئة بالحب الذي ما عاد يُجدي". قد يعني إفلاس السائحة، إفلاس الكثير من الأحزاب والمنظمات والنقابات والجمعيات، التي أصبح همها الأساس هو الصيد. الفريسة هو طائر السنونو (الشعب) الوديع، المسالم، المهاجر. فالصياد المسؤول على مصالح البلاد والعباد، ببندقيته يُجندِل العصفور (الشعب) أرضًا، مهمته قتل العصافير. إنه موت الجمال والعزة والأناقة والموسيقى على يد القبح الذي لا يرحم البراءة والنقاء في العصافير التي لا تسعى إلا للغناء والطيران الحرَّ بسعادة في السماء الواسعة. إنها تلك الطيور الكاسرة التي تعوض وداعة السنونو. فالكاسر هو الذي ينال غايته بقسوة وشراسة.

ما عاد الحب يجدي عندما يموت السنونو القابع في الإنسان ويتحول هذا الأخير إلى جارح، أي يقتل السنونو الداخلي. ما يحصل هو تغير في سيكولوجية االسياسي المغربي، الذي أصبح في عمومه كاسرًا في الغابة المنطوية في حياتنا اليومية، يسعى لاقتناص الربح المادي، كأسمى هدف له في الحياة.

وتضيف: "مشيت/ ورغبت فقط لو جاءت السنونوات/وجلست/مسافة فنجان قهوة/بقربي..". قد لا يعني "المشي" هنا تعبا أو إنهاكا، بل بحثا عن الحل، والعمل الجاد، تماما كما تقوم السونونات بذلك أثناء بناء عشها. وقد يعني "الجلوس" الأمل في التغيير الطارئ في وعي المسؤول السياسي، وهو وعي يصحح ذاته بما يتجاوب مع اهتزازات روحية عليا، لشعب صبور، أكثر من أيوب.

في عملية جمع رموز القصيدة، في محاولة بناء تحليل لمضمونها، يتنبين بأن السنونو، رمز الأمل والخير الأعم والوداعة، والذي لم يحط على رأس تلك "السائحة"، إنما حل كرؤية تُذَكِّر، من ساحة الهديم، بأن الأمور ليست على ما يرام، لم تتغير إلا نسبيا منذ –ولربما قبل- بناء العبيد (الشعب) لحيطان توثق للظلم وقهر العباد. وبما أنه يرمم عشه كلما عاد، فإن عملية ترميم وإصلاح ذات الحال ضرورية في مغرب يتتوق إلى مستقبل أفضل، لشعب صبور، غير غافل، في مرحلة تاريخية حاسمة، شعارها: أن نكون أو ألا نكون في عالم، مناخه السياسي والإقتصادي متوحش للغاية. وبما أن هناك انفراج سياسي لم يسبق له مثيل في المغرب على مستوى "حكم الشخص الواحد"، وإتاحة الفرصة لقوى سياسية مختلفة تحمل المسؤولية في حدود معينة، فإن السنونو، باعتباره حامل أمل متجدد، أتى ليذكر هذه القوى بأن عصر "الطائر الجارح" لن يدوم، وعليه إخلاء المكان للسنونونات المسالمة، الشغالة، حاملة الأمل المشرق، لوطن، لا يمكن أن نحبه، حتى نخدم أهله، ونسهر على مصالحهم.

منبر

الدكتور حميد لشهب
عضو المجلس البلدي لمدينة فيلدكرخ النمساوية
حميد لشهب
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال