القائمة

الرأي

"الخميس الأسود" والثقافة السياسية

تُنْتِجُ كل ثقافات المعمورة شعارات تصبح رموزا تُدمج في تاريخها الثقافي والإجتماعي والسياسي، أي ما يُكَوِّن في العمق هويتها الخاصة. وتكمن قوة الرمز في ضمان عدم نسيان الحدث الذي قام من أجله، أي إعادة التذكير به على مدى أجيال طوال. كالإشاعة، ينتشر الشعار بسرعة فائقة، غير أنهما يختلفان من حيث الوظيفة: فإذا كانت وظيفة الشعار هي التوثيق لحدث وإدخاله حلبة الذاكرة التاريخية من بابها الواسع، فإن وظيفة الإشاعة هي محاولة المس بمصداقية الشعار، بُغية التقليل من أهميته وحمولته الرمزية.

نشر
DR
مدة القراءة: 5'

ينضاف شعار: "الخميس الأسود"، الذي ملئ سماء المغرب يوم 7 يناير 2016، إلى "الخميس الأسود" لعام 1929، وقت انهيار بورصة وول ستريت، كما ينضاف إلى "الخميس الأسود" الكويتي، عندما دخل العراق هذا البلد عام 1990. مضامينيا، "للخميس الأسود المغربي" تشابها مع "الخميس الأسود التونسي" لعام 1978، عندما اصدمت الشغيلة التونسية بالقواة الأمنية لبورقيبة، وقُتل ما يناهز 6000نفس طيبة من التونسيين. أما "رزية الخميس"، فتذكر بواقعة محزنة حصلت قبيل وفاة النبي محمد (ص) حيث عارضه بعض الصحابة علناً وأبَوا أن يطيعوا أمره. وروى سعيد ابن جبير أن ابن عباسقال: "يوم الخميس وما أدراك ما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى!".

ما يميز "الخميس الأسود المغربي" هي الرموز التي يتضمنها وتاريخ الحدوث 7 يناير. طبقا للكثير من المعاجم العربية، باستثناء كونه اليوم الخامس في الأسبوع، فإن الخمِيسُ يعني كذلك الجَيشُ الجَرَّارُ ويُقال: "ما أدْرِي أَيُّ خَمِيس الناس هو، أَي جَماعتَهم". ويوم الخميس، الذي كان يسمى في الجاهلية "مُؤْنِس"، هو يوم خاص عند المسلمين، يصومه الكثير اقتداء بالرسول: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم".

نجد رمز رقم سبعة (7) في الكثير من ثقافات العالم ودياناتها، ويعني عموما الخير والبركة وله أهمية قصوى في الإسلام، فالشهادة مثلا مكونة من سبعة كلمات، وخَلقُ الإنسان تم طِبقا لسبعة مراحل: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفةً في قرارٍ مكينٍ، ثم خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأنه خلقاً ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين" (المؤمنون 12-14). هذا الإنسان هو الذي كان موضوع ضرب وجرح، ولربما قتل، يوم الخميس 7يناير 2016 بالمغرب. وتحليل بعض تمظهرات رمزية الخميس والرقم 7، على ضوء ما حدث، هو موضوع هذه المحاولة المركزة.

ما يثير الإنتباه تحليل نفسيا هو تصريح الكثير من أصحاب القرار في المغرب، المتمثل في كون الخبر فاجئهم ولم يكونوا يعلمون بحدوثه ولا من أعطى أوامره. بغض النظر عن كون التصريح يوحي بأن صاحب القرار أرسل رسالة مباشرة للرأي العام، يؤكد فيها بأنه غير كفئ في تسييره، ذلك أن شيئا مهما خرج عن نطاق سيطرته وتحكمه، فإن الرسالة الضمنية هي كون مصير ضحايا التدخل العنيف ضد المتظاهرين لا تهم صاحب القرار هذا، وليس له أي علم "تنبإ" بما سيحصل لهم بعد تطبيق "عزل التكوين عن التوظيف"، وهو أمر فريد في العالم بأسره. فهل سيتم تطبيق هذا الأمر في العدل مثلا وفي الأمن وباقي القطاعات الحيوية الأخرى، بما فيها العسكرية؟ وبأي منطق تكون دولة ما  مدرسين دون إدماجهم في خدمة وطنهم مباشرة؟ لماذا يكونون إذن؟

تستمر كارثة الرمز التحليل النفسي للحدث، عندما يؤكد المسؤول المغربي بأن الذين نزلوا للشوارع لم يكونوا يتوفرون على رُخص للتظاهر. من هنا، وكما أكد على ذلك المحلل الألماني الشهير إيريك فروم، يتضح البناء النفسي للسيطرة المرضية، التي تتأسس قبل كل شيئ على تقديس الشكليات الإدارية على حساب الإجتهاد في إيجاد حلول للمشاكل العالقة. فالإختباء وراء هذه الشكليات القانونية لتبرير العدوان على أشخاص عزل، هو في العمق إعلان عن منطق البطش، الذي يؤسس كل سلطة قمعية.

تُحاول كل سلطة تسلطية خلق ميكانيزمات دفاع تسمح لها بالإستمرارية، ومن بين هذه الميكانيزمات هناك محاولات طمس رموز المحكومين. وهذا ما حدث بالضبط عندما صرح مسؤول مغربي عقب هذه الأحداث لفضائية عربية، بأن ما وقع يدخل في "مؤامرة" تحاك ضد "الحكومة". هنا يدخل "منطق الإشاعة" لمواجهة "القوة الرمزية لشعار "الخميس الأسود"". لا تتطلب الإشاعة أية برهنة عليها، بل تُقذف في وسط إعلامي، بهدف مس الرمز. ما يُخيف في هذا الإطار ويفرض التسائل حول الصحة النفسية والعقلية لهذا المسؤول هو تأكيده بجدية بأن ما شاهده المرء على شاشات التلفزات العالمية، لم يكن إلا "مونتاجات"، تستغلها "المؤامرة" لصالحها. هناك إذن تجاهل مقصود للواقع الفعلي ومحاولة إيهام المتلقي بأن ما يراه ما هو إلا خيال، لا وجود له في الواقع. يعني هذا من الناحية النفسية من بين ما يعنيه محاولة نفي حتى وجود مشاكل في هذا الميدان، بل –عندما ندفع أطروحة التحليل إلى أقصاها- نفي وجود بشر من لحم ودم مُورست في حقهم أشكال عنف، أقل ما يمكن أن يقال عنها هو أنها غير لائقة بالصورة التي تحاول الطبقة الحاكمة تقديمها عن نفسها: "حكومة التضامن والإهتمام بالضعيف والمهمشين إلخ". ما يجب التنبيه له، وبغض النظر عن صحة تشخيص مُحرك "المؤامرة"، فإن صاحب القرار يعترف بتفوق "هذا العقل المدبر"، لأن صاحب القرار بكل أجهزته الأمنية، الظاهر منها والخفي، لم يستطع إيقاف "المؤامرة" قبل أن تحدث؛ وهذا تأكيد إضافي على عجزه في التسيير. وما وراء محاولة إيجاد قربان لهذا الحدث، لابد من وضع الأصبع على "أيديلوجية التخويف والترهيب"، وكأن لسان حال صاحب القرار يقول: "إن جبروتنا لا يُساوي شيئا أمام الجهة التي تسببت في هذه الأحداث، لأنها أكثر راديكالية وقمعا". وما وراء كل هذا هناك استخفاف بعقل وذكاء منظمي تلك الوقفات الإحتجاجية في عموم المغرب، وكأن المرء يتهمهم بأنهم خرفان بلداء، عرضة لكل استغلال.

عموما، مثل هذه الأحداث والطريقة التي تعاملت بها الجهات الرسمية معها، تجبرنا على دق ناقوس الخطر، لأن "الديمقراطية" الفتية التي نحاول بنائها في خطر حقيقي، لا يأتي من الخارج، بل ممن يخدمون نظريا مصالح الشعب. وأعتقد شخصيا بأن أقل ما يجب على الحكومة القيام به هو اعترافها بفشلها في إدارة هذه الأزمة ومحاسبة الجهات الأمنية التي اقترفت في العمق جناية في حق عُزل، "جريمتهم" الوحيدة هي أنهم آمنوا بحق يضمنه الدستور. على الحكومة، إذا كانت تريد إعادة ثقة المواطن بها الإعتذار للمعنيين بالأمر وتحمل نفقة المجروحين والمعطوبين. هذا موقف إنساني، من اللازم أن يصدر عن حكومة، أغلبيتها تقول بأنها أتت من أجل "العدل والإحسان". وبهذا فقط يمكن ضمان بناء ثقافة سياسية حقيقية في المغرب.

منبر

الدكتور حميد لشهب
عضو المجلس البلدي لمدينة فيلدكرخ النمساوية
حميد لشهب
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال