القائمة

الرأي

قراءة جديدة في خلفيات أحداث 16 ماي الإرهابية

بين حدث 16 ماي 1930 الذي كان تتويجا للسياسة الاستعمارية للمناطق الأمازيغية بإصدار الظهير البربري، وحدث 16 ماي 2003 الذي حفر بالدماء ذكرى أليمة في الوعي الجمعي لدى المغاربة، خيط رفيع يجمعهما، بالرغم من المدة الزمنية الطويلة التي تفصل بين الحدثين، والتي تجاوزت 70 سنة.

 

نشر
DR
مدة القراءة: 6'

حدث 16 ماي الأول

كان الظهير البربري عنوانا بارزا لسياسة "فرق تسد" التي نهجها الاستعمار من أجل السيطرة على مقدراتنا الاقتصادية، ذلك أنه اكتشف مبكرا مصدر المقاومة التي أبداها أجدادنا الأمازيغ في القرى والبوادي والجبال وروح الاستبسال التي استلهموها من معنى الجهاد ضد الغزاة، فوضع سياسة عزل هذه المناطق عن باقي القرى والحواضر حتى لا تمتد إليها شرارة المقاومة، فوضع الظهير البربري الذي يقصي التحاكم للشريعة الإسلامية بين تلك القبائل ويهمش اللغة العربية، وتم توقيعه يوم 16 ماي 1930، فخرجت على إثر ذلك حركة اللطيف في تظاهرات انطلقت من المساجد قبل أن تعم أرجاء الوطن، شعارها:

"اللهم يا لطيف الطف بنا في ما جرت به المقادير، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر"..

وكانت تلك الحركة منطلقا وشرارة انبعثت منها "الحركة الوطنية" التي ستوسع من دائرة المقاومة لتعم جميع أرجاء الوطن.

الاستعمار بذكائه ومكره، عمل على تقوية أذرعه في الإدارة والاقتصاد والقضاء والتشريع والجيش والمخابرات والإعلام والتعليم، ووضع مرتكزات "الحزب السري" الذي سترتبط مصالحه بمصالحه، وستتوسع فيما بعد قاعدته لتتشكل منها لوبيات ربطت مصيرها بمصيره، وهو ما نسميه اليوم ب"الدولة العميقة".

بالموازاة مع ذلك عمل على تهميش العلماء وما يرتبط بهم من قضاء وتعليم ديني وفتوى، وأضعف اللغتين العربية والأمازيغية، وأحل محلها لغته وقيمه ونمطه في العيش الذي أضحى نمط عيش الطبقة البورجوازية ورمزا للتقدم.

سياق أحداث 16 ماي الثانية:

بعد عقدين من الاستقلال ستظهر البوادر الأولى للحركة الإسلامية المعاصرة باعتبارها رد فعل عن استهداف الهوية واللغة والدين من الاتجاهات اليسارية والتغريبية عموما، لكنها ستنشأ مقطوعة عن جذورها وسياقها الوطني بسبب تلك السياسة الاستعمارية التي فصلت بين مجتمعين، بل إنها ستذهب أبعد من ذلك باتخاذها مواقف عدائية من المؤسسة الملكية والأحزاب السياسية ذات المرجعية العلمانية وللمجتمع عموما.

إلا أن الجماعة الإسلامية بقيادة الأستاذ عبد الإله بنكيران قامت مبكرا بمراجعات جذرية، مستفيذة من تجارب الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي بنجاحاتها وإخفاقاتها، تلك المراجعات أدت لمصالحات كبيرة، أهمها:

أولا: المصالحة مع التاريخ، حيث كشفت تلك المراجعات عن جذور الانتماء الإسلامي للدولة المغربية وطبيعة النظام الملكي الذي قام على البيعة وإمارة المومنين منذ 12 قرنا دون أن يتأثر بالخلافة العثمانية التي وقفت جيوشها عند الجارة الجزائر.

ثانيا : المصالحة مع الملكية واعتبارها مرتكزا من أهم مرتكزات استقرار واستمرار الدولة، وبالتالي إسقاط مطلب "إقامة الدولة أو الخلافة الإسلامية" واستبدالها بمقصد "إقامة الدين"، وهذا سيقود فيما بعد للمشاركة السياسية تحت عنوان: "الإصلاح في ظل الاستقرار".

ثالثا: المصالحة مع المجتمع المغربي على أساس أنه مجتمع مسلم تشوبه انحرافات مثل تلك التي تشوب أي فرد مسلم تعتريه انحرافات أوينغمس في المعاصي، وبالتالي لا مجال لاعتزاله أو مفاصلته أو هجره أو اعتبار "الجماعة" هي مجتمع الانتماء الطهراني وغيرها هو المدنس..وهذا بدوره قاد للتعامل معه على قاعدة "التعاون مع الغير على الخير".

رابعا : المصالحة مع المؤسسات والقوانين الجارية، وهو ما قاد لمطلب العمل من داخل المؤسسات وتأسيس الجمعيات والعمل النقابي والعمل الحزبي، وتبني الديمقراطية أداة للتداول السلمي على السلطة.

خامسا: المصالحة مع الأحزاب الوطنية، وإنتاج قواعد شرعية للتحالف معها على أساس برامج سياسية تروم تحقيق المصلحة العامة وتقليل المفاسد، وهذا قاد لعقد تحالف استراتيجي مع الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية التي كان يقودها الوطني الكبير الراحل الدكتور عبد الكريم الخطيب رحمه الله.

هنا ستلتحم من جديد القوتين البارزتين في تنظيم المجتمع المغربي وتأطيره سياسيا وثقافيا واجتماعيا، أعني الحركة الوطنية والحركة الإسلامية، وهو ما كان الاستعمار حريصا على إعاقته منذ بوادره الأولى مع شيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي وشيخ الإسلام بلعربي العلوي والزعيم علال الفاسي والعلامة المختار السوسي، حيث تم تهميش هذا الاتجاه فيما بعد ـ كما ذكرنا ـ داخل الحركة الوطنية لحساب التيار التغريبي.

بالطبع ما كان ليعجب صناع القرار في الدوائر الاستعمارية هذا الالتحام التاريخي بين جناحين بارزين قادرين عند اتحادهما على تجاوز كل عقبات التقدم في طريق التحرر من التبعية الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والثقافية، ففجروا بأيادي آثمة وجاهلة قنبلة 16 ماي الثانية بعد سبعين سنة من تفجير قنبلة "الظهير البربري" في 16 ماي الأولى.

بسرعة تم إلصاق تهمة "المسؤولية المعنوية" عن تلك الأحداث الأليمة لحزب العدالة والتنمية ومنع من المشاركة في التظاهرة التنديدية بتلك التفجيرات، وانخرط الاستئصاليون في حركة هستيرية يطالبون برأس الحزب، لولا حكمة الجالس على العرش التي حالت دون حل الحزب المستهدف.

لكن تلك الأحداث آتت أكلها حيث اصطفت كل الأحزاب ضد "العدالة والتنمية" واعتبرته خطا أحمر في كل التحالفات، ومن جهتها استغلت الإدارة تلك الأحداث لإضعاف الحزب من خلال تقزيم مشاركته في الاستحقاقات الانتخابية التي تلت الأحداث، وصنعت أداة جديدة للتحكم في المشهد السياسي، عبارة عن خليط من الأعيان وسماسرة الانتخابات وبقايا اليسار الراديكالي الذي استفاذ من المصالحة مع الدولة في العهد الجديد ليتموقع في مفاصل الدولة ومراكز القرار.

الربيع المغربي يوقف آلة "التحكم":

وضع زلزال الربيع العربي في نسخته المغربية ( = حركة 20 فبراير) حدا لتمدد حزب التحكم الذي اكتسح الانتخابات الجماعية سنة 2009، وتوارى للخلف مهندسو الوافد الجديد وبعض غادر للخارج والرعب يملأ قلوبهم وهم يرون سقوط أنظمة كانت تحكم شعوبها بالحديد والنار وسياسة "التحكم".

قدم الجالس على العرش تنازلات دستورية كانت تطالب بها الأحزاب الوطنية منذ الاستقلال في خطاب تاريخي يوم التاسع مارس 2011 توجت بإقرار دستور جديد جرت في ظله انتخابات لم يطعن أحد في نزاهتها ومصداقيتها، منحت الفاعل الإسلامي 107 مقاعد في البرلمان، وعين الملك الأستاذ عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة، فكان أول ما قام به رفقة صاحبه سي عبد الله بها رحمه الله أن سجلا زيارات تاريخية لرموز وقيادات الحركة الوطنية، على رأسها الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، إحياء منهم لمعاني التلاحم والتضامن واستلهام النضال من مدرسة اقتسم أجدادهم عناء بنائها قبل أن يجهز عليها الاستعمار في محطتين عرفتا ب: "أحداث 16 ماي الأولى والثانية".

للأسف القيادات الجديدة لحزبي عبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي لم تدرك آنذاك مغزى تلك الزيارات، ولا هي التقطت الإشارة من الزعيم الإسلامي وهو يمد لها يده من أجل تحالف تاريخي بندائه العميق: "بغيتكوم تسخنوا كتافي".

فهل يعيد التاريخ نفسه..؟

منبر

د. أحمد الشقيري الديني
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال