القائمة

أرشيف

عندما كان المغاربة يحرمون استهلاك "قالب السكر"  

كان المغرب في القرنين الخامس عشر والسادس عشر من بين أهم منتجي السكر في العالم، قبل أن يتراجع إنتاجه بشكل كبير بعد ذلك، وفي نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، بدأ المغرب يستورد "قالب السكر" من أوروبا، واختلف الكثيرون حول تحليله وتحريمه، وتدخل السلطان مولاي سليمان وطالب العلماء بإصدار فتوى في الموضوع.

نشر
DR
مدة القراءة: 5'

 على غرار الشاي والقهوة والتبغ، شهد المغرب جدلا كبيرا عند استيراد قالب السكر من أوروبا خلال عهد السلطان العلوي مولاي سلميان الذي حكم المغرب بين سنتي 1797 و 1822، حيث كان يرى البعض أنه حرام وأن النصارى يخلطونه بدم الخنزير، فيما دافع آخرون عن تحليله.

المغرب والسكر.. من مصدر إلى مستورد

خلال فترة الحكم السعدي (1554-1659) كانت صناعة السكر مزدهرة بالمغرب، ويشير أستاذ التاريخ محمد استيتو بحسب ما نقلت صحيفة "الشرق الأوسط" إلى أن السعديين جنوا من صناعة السكر "عائدات مالية مهمة للغاية"، كما "تمت مقايضة السكر بمواد وسلع أجنبية كثيرة ومن أبرزها الرخام"، الذي كان السلطان أحمد المنصور الذهبي (1578 – 1603) في حاجة إليه بكميات كبيرة لبناء قصر البديع بمراكش، وغيره من البنايات التي ظلت شاهدة على ازدهار الحكم السعدي.

وبحسب استيتو فقد كان "التجار الإنجليز خاصة، يتقاطرون على المغرب بكثرة، من أجل التجارة، ولا سيما من أجل استبدال السكر المغربي بالأسلحة وبذخائر الحرب، وأيضًا بالذهب، بدلاً من سلع ومنتجات أخرى كالأقمشة، حتى إن بعض الأوساط الإنجليزية اتهمتهم بأنهم يحرمون بذلك ملكة بلادهم من الرسوم الجمركية المفروضة على الصادرات، وبأنهم يدمرون صناعة المنسوجات الإنجليزية".

وواصل أنه من الراجح أن "سلاطين المغرب استثمروا كل هذه المزايا التي كانت لمادة السكر وقيمتها الاعتبارية في الحقل السياسي والدبلوماسي من أجل توطيد العلاقات مع الدول الأجنبية، وذلك بتقديم هذه السلعة النفيسة هدايا للملوك وغيرهم".

لكن مع وفاة السلطان المنصور الذهبي سنة 1603، الذي يعتبر أعظم سلاطين الدولة السعدية، تراجعت صناعة السكر، وأفلت بشكل سريع جدا "حتى أصبح الحديث عنها بعده بزمن يسير في خبر كان".

"قالب سكر" النصارى حرام

وفي نهاية القرن 18 وبداية القرن 19 بدأ المغرب يستورد قالب السكر من أوروبا بعدما كان مصدرا له، ورغم أن صناعة السكر كانت منتشرة في البلاد قبل القرن الخامس عشر، إلا أن دخول السكر الأوروبي خلق جدلا واسعا في البلاد بين من يراه حراما ومن يراه حلالا.

وبحسب ما جاء في كتاب "من الشاي إلى الأتاي.. العادة والتاريخ" لعبد الأحد السبتي وعبد الرحمان الخصاصي، فقد قال محمد العربي بن محمد الزرهوني الهاشمي المتوفي سنة 1844، والذي تولى القضاء والإفتاء في مدينة فاس، في فتواه حول "قالب السكر"، إنه وقع "كلام في سكر القالب المصفى، بسبب قول بعض التجار، الذين يترددون للتجارة في بلاد النصارى، أنهم عاينوا النصارى في بعض البلدان يجعلون في سكر القالب الدم عند طبخه للتصفية إلى أن يصير في نهاية من البياض والصلابة، على الشكل الواصل إلى بلاد المسلمين ويجلبونه لهم".

مضيفا أن الخبر وصل "لأمير المؤمنين المقدس المنعم، عالم الشرفاء وشرف العلماء، أبو المكارم وأبو الربيع مولانا سليمان، جدد الله عليه شآبيب رحمته، وأسكنه في أعلى الفراديس من دار كرامته. فرد ذلك على عادته إلى أهل العلم".

وتابع أن رجال الدين أجابوا "بالإباحة على الأصل في الأشياء، وإلغاء حكم الشك في ذلك على فرض وجوده في القضية. وبعضهم قيد في ذلك وأبدى وأعاد، ووضح للمستنصحين المراد...".

وقدم محمد العربي بن محمد الزرهوني مجموعة من الأدلة التي تدل على أن قالب السكر حلال وقال "فاتضح بهذا كله إباحة السكر المذكور، وأنه من الطيبات المباحة، فلا ينبغي ترك أكله ورعا، إذ ليس من الشبهات".

فيما قال محمد بن عبد السلام الناصري المتوفي سنة 1823 وهو من علماء الزاوية الناصرية بمنطقة درعة، "سئلت عن السكر هل وجد له أصل ذكر في الصدر الأول من زمان البعثة فما بعده، أو إنما ظهر بعدها، وعلى الأول فهل أكله صلى الله عليه وسلم ورآه أم لا؟ وعن حكمه بعد التصفية وانعقاده، إذ زعموا أن الروم يعقدونه بالمسفوح من الدماء، أو بخصوص دم الخنزير أو أنفحته".

وتابع في فتواه المذكورة في كتاب "من الشاي إلى الأتاي.. العادة والتاريخ"، "أما حلية السكر فمعلومة من الدين بالضرورة، كتابا وسنة وفقها وإجماعا"، وتابع "وما ادعي عن نجاسة المعقود من السكر كان من الحمرة التي تظهر فيه بعند ملاقاة النار، فهي جودة في أًلهه قبل التصفية والعقد أخالها من القصب".

فيما اختار الفقيه الفاسي حمدون الحاج السلمي المتوفي سنة 1817، الرد على من يقول بحرمة قالب السكر بقصيدة جاء فيها:  

لقد حدثونا أن سكر القالب ... بصافي الدم المسفوح يصفو لشارب

فبعضه عمن رواه وبعضهم ... رآه عيانا ليس عنهم بغائب

وليس بزعم ما به قد تحدثوا .... وما زعموا إلى مطية كاذب

وأصدر سليمان بن محمد الشفشاوني المعروف بالحوات المتوفي سنة 1816، والذي ولد بمدينة شفشاون، فتوى قال فيها "إن بعض المسلمين ممن سافر لبلاد النصارى أخبرهم أنهم يجعلون الدم في السكر عند طبخه للتصفية، ثم يبالغ فيه طبخا وتصفية إلى أن يصير في نهاية من البياض والصلابة، مفرغا في القوالب على الشكل الواصل إلينا. فكثر الكلام بين الطلبة في حكمه بالتحريم لنجاسة الدم الذي خالطه".

وأضاف "وأقول الذي يظهر بل يتعين في هذا الخبر، أنه غلط نشأ من توهم أن الحمرة التي في السكر أو طبخه هي حمرة دم يخالطه حينئذ. وليس الأمر كذلك، بل ذلك الذي توهم أنه الدم إنما هو عين السكر في أول أطوار طبخه، فإنه إذ ذاك يكون أحمر كأنه عندم (نبات يستعمل للصباغة)".

"قلب السكر".. رمز للكرم

وبعد اقتناع المغاربة بأن "قالب السكر" حلال، توسع استهلاكه، ليصير مع مرور الوقت عنوانا للكرم وقوة الأواصر الاجتماعية، حيث يتم إهداؤه في المناسبات الاجتماعية، سواء كانت سعيدة أو حزينة.

ويرتاح عدد كبير من المغاربة إلى "قالب السكر" أكثر من ارتياحهم لأنواع السكر الأخرى التي تكون غالبا على شكل قطع متفاوتة الحجم، ومنهم من يقتنع بأن قالب السكر أكثر حلاوة من الأنواع الأخرى.

وبحسب مقال صحيفة الشرق الأوسط الصادر في سنة 2016 فإن استهلاك  "قالب السكر" يمثل نسبة الثلث من مجموع استهلاك المغاربة لمختلف أنواع السكر، حيث يتم تسويق 400 ألف طن من "قالب السكر"، فيما يناهز مجموع التسويق الوطني من المنتجات المكونة لمادة السكر مليون و200 ألف طن.

ويحتل المغرب حاليا المركز الثالث على مستوى الطاقة الإنتاجية للسكر بأفريقيا بمليون و650 ألف طن، وذلك خلف جنوب أفريقيا ومصر، كما يبقى من بين أهم الدول المستهلكة لهذه المادة، إلى جانب مصر وجنوب أفريقيا ونيجيريا والسودان والجزائر وكينيا.

كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال