القائمة

أخبار

تاريخ: عندما سمع المغاربة بالحجر الصحي لأول مرة وحرمه علماؤهم

في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر انتشر وباء الطاعون في المغرب الأقصى، وحصد آلاف الأرواح، وكان المخزن يقف عاجزا أمامه. آنذاك بدأ مفهوم الحجر الصحي الذي كان يعرف بـ"الكارنتينه" يدخل إلى المغرب.

نشر
صورة تعبيرية
مدة القراءة: 6'

مع انتشار الأوبئة في المغرب الأقصى ووقوف المخزن عاجزا أمامها وسقوط آلاف القتلى، بدأ بعض المغاربة الذين سبق لهم أن زاروا مناطق كانت تقع تحت سيطرة الأوروبيين، يتحدثون عما يعرف "بالكرنتينه" والتي تعني وضع المشكوك في إصابتهم في الحجر الصحي لتجنب تفشي الأوبئة.

اكتشاف الحجر الصحي

وبحسب ما يحكي كتاب "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر" لصاحبه محمد الأمين البزاز، فقد تحدث المغاربة عن بعض مظاهر التقدم في البلدان التي زاروها و"وصفوا أيضا هذه "الكرنتينة" وعرفوا بها في بلدهم قبل أن تطبق فيه على يد المجلس الصحي".

وفي كتابه "الإكسير في فكاك الأسير" يتحدث السفير المغربي ابن عثمان المكناسي عن رحلته إلى إسبانيا، ويصف "الكرنتينه" بعد وصوله إلى سبتة سنة 1779 بقوله، "وقد ذكروا لنا قبل أنه لابد من أن نجعل الكرنتينة ومعناها، أن يقيم الذي يرد عليهم في موضع معروف عندهم معد لذلك أربعين يوما، لا يخرج منه ولا يدخل إليه أحد.. ولهم في ذلك تشديد كثير حتى أن الذي يأتي إلى صاحب الكرنتيه بالطعام يطرحه له من بعيد ويحمله الآخر ولا يتلامسان. وإن ورد عليهم بكتاب ذكروا أنهم يغمسونه في الخل وبعد أن يقبضوه منه بقبضة".

وبحسب الأمين البزاز فإن "هذا الوصف الدقيق يجعلنا نستنتج أن "الكرنتيه" كانت ظاهرة جديدة لا عهد للمغاربة بها وقتذاك، لذلك نرى ابن عثمان يجتهد في وصفها كشيء غير مألوف".

بعد ذلك بحوالي 15 سنة، تحدث المؤرخ المغربي أبو القاسم الزياني في كتابه "الترجمانة الكبرى" عن التدابير الصحية التي اصطدم بها في تونس في طريق عودته من رحلته الثالثة سنة 1794، وذكر أن السفينة التي كانت تقله مع عدد من الحجاج والركاب الاتراك والمسيحيين لم يسمح لها بحرية الدخول في ميناء تونس، إلا بعد قضاء حجر صحي لمدة 20 يوما، ولم يتردد في اعتبار هذا الإجراء مخالفا للشريعة الإٍسلامية، وقال "وبعد يومين جاءنا الإذن بالنزول إلى الكرنتينه الشنعا الممنوعة عرفا وشرعا".

وباء الطاعون في المغرب والحجر الصحي

في نهاية ثمانينيات القرن الثامن عشر، ظهر الطاعون بالجزائر وتونس، وهو ما جعل سيدي محمد بن عبد الله بحسب كتاب "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر"  يتخذ بعض التدابير من بينها إقامة نطاق عسكري في الحدود الشرقية لوقاية مملكته من الوباء.

وابتداء من سنة 1792، بدأت الهيئة القنصلية المقيمة بطنجة في اتخاذ إجراءات صحية وقائية على الواجهة البحرية، وقد تمكنت سنة 1793 من انتزاع موافقة مولاي سليمان على فرض حجر صحي على الجزائر امتد من يونيو إلى أكتوبر، وفي يوليوز من سنة 1797 حصلت من السلطان على ظهير خاص ينص على فرض الحجر الصحي على السفن القادمة من وهران وشل جميع المواصلات القارية في الحدود الشرقية. بفضل هذه التدابير بقي المغرب بعيدا للطاعون.

لكن في سنة 1798 دخل الوباء إلى المغرب، وبدأ الطاعون ينتشر في البلاد. وساهم في انتشار الوباء قيام السلطان بتنظيم حملة إلى الجنوب قصد إخضاع قائد عبدة وآسفي عبد الرحمان بن ناصر، في الوقت الذي كان فيه الطاعون متفشيا في فاس ومكناس، ونتيجة لذلك نقل جنوده الوباء إلى  السهول الساحلية والأقاليم الجنوبية. وكتب قنصل أنجلترا بطنجة "إن جيش السلطان قد نقل العدوى من فاس إلى الرباط ثم إلى باقي السهول الأطلنتكية".

بسبب هذه العوامل امتد الوباء على نطاق جغرافي واسع، فتفشى أولا في حوض سبو في أبريل –ماي 1799 واندلع في سهول الشاوية ودكالة وعبدة والحوز في يونيو ويوليوز. وتوغل في سوس خلال غشت –شتنبر. وعلى الرغم من الاحتياطات التي اتخذها القناصل إلا أنه واصل زحفه كالسيل الجارح مكتسحا الحواجز في طريقه. وهكذا فقد ضرب تطوان وطنجة في شهر نونبر، وتمادى إلى السنة التالية ضاربا الجهات التي أخطأها سابقا ولم ينقطع أثره إلا مع نهاية 1800.

ونقل كتاب محمد الأمين البزاز، أن الملاحظون الأجانب ، الذين عاصروا الوباء يتفقون "على القول بأنه أحدث انهيارا ديموغرافيا كبيرا إلى حد أن كثيرا من المدن خلت من سكانها".

الحجر الصحي حرام !

رغم فوائده في محاصرة الأمراض المعدية، إلا أن المغاربة خلقوا نوعا من الجدل حول الحجر الصحي، وذهب أغلبهم إلى أنه "ما أنزل الله به من سلطان" وأنه حرام شرعا.

ويشير كتاب البزاز إلى أنه "في 26 يناير من سنة 1841 حل العربي المشرفي بمصر في طريقه إلى الحج، فعاين هناك الحجر الصحي الذي كان يفرض على الحجاج تحت إشراف الهيئة القنصلية، وعبر عن موقفه منها بقوله "نعوذ بالله من هذا الاعتقاد فلا يموت ميت دون أجله".

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبحت مسألة الحجر الصحي تلاقي اهتماما كبيرا من قبل المغاربة، خصوصا مع تزايد اعتمادها في المراسي المغربية، وكان المؤرخ والفقيه المغربي أحمد بن خالد الناصري من بين الذين أفتوا بتحريمها وجاء في كتابه "الاستقصا" بما أن مصالح الكرنتينة "غير محققة على عكس مفاسدها"، بل إنه اعتبر الحجر الصحي لا يهدد مصالح الناس المادية فحسب وإنما أيضا عقائدهم الدينية "فالحاصل أن الكرنتينه اشتملت على مفاسد كل منها محقق فتعين القول بحرمتها، وجلب النصوص الشاهدة لذلك من الشريعة لا تعوز البصير".

وأجمع فقهاء المغرب آنذاك، على اتخاذ وجهة نظر متصلبة من قضية "الكارنتينه" اتخذت اتجاها صريحا في معارضته، بل والتجأ بعضهم في إطار محاربته إلى استعمال سلاح الفتاوي، الذي يكتسي أهمية وخطورة كبرى في توجيه الرأي العام المغربي.

ويوضح محمد الأمين البزاز في كتابه، أن النائب السلطاني بطنجة "محمد بركاش ومن تقدمه من كبار الموظفين والولاة المتنورين الذين تفتحت عيونهم على محاسن الحضارة الأوروبية قد اقترحوا على حكوماتهم إنشاء محاجر صحية وأشاروا عليها بالعناية بشؤون الصحة، تأمينا لسلامة المواطنين المغاربة والمستوطنين الأجانب، فكانت اقتراحاتهم وإشارتهم تقابل من طرف الوزراء والكتاب والعلماء المتخلفين فكريا بالإهمال وأحيانا بالاستخفاف بدعوى أن ما يصح تطبيقه في بلاد النصارى لا يصح تطبيقه في بلاد المسلمين، وأن منع اختلاط السليم بالموبوء لا يجوز شرعا لأنه فرار من القدر".

وعندما وافق محد بركاش سنة 1878 على فرض نطاق صحي حول طنجة لحمايتها من الكوليرا التي ظهرت بفاس ومكناس، صب عليه السلطان مولاي الحسن الأول جام غضبه في رسالة توبيخية يقول فيها "وتجبنا من قبولك منهم (السفراء الأجانب) ذلك الكلام وسماعه فضلا عن العمل به، مع أنه مخالف لشريعتنا المطهرة فإن المعتمد في ديننا أن لا عدوى ولا طيرة وأن الذي في أحاديث نبينا الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم أن لا يقدم على بلاد فيها الوباء ولا يخرج من بلاد ظهر فيها فرارا منه".

وبذلك، كان الفقهاء في مغرب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يشكلون عائقا أمام استفادة المغرب من التجربة الأوروبية فيما يخص الحجر الصحي.

كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال